أصبحنا والحمد لله صائمين، وكل واحد منا ينتمي في صوْمه إلى طبقة ما، فمنا من منع بطنه وفرجه عن شهوتهما المعتادة، ولكنه لا يتورع عن الكذب والتحايل والأيْمان المعقدة والنميمة واغتياب الناس، والغش في العمل، وارتكاب الربا من أجل رمضانَ مريحٍ مادّيّاً، متعبٍ روحيّاً، وإرسالِ البصر وراء ما لا يحلّ له متلذذا ومستمتعا، مع أننا اُمرْنا بغض البصَر. ومنا من ارتقى بصومه إلى منع بطنه وفرجه عن شهوتهما المعتادة مع الاجتهاد في ترك كل ما ينغّصُ عليه ويفسده، مقبلا على عمله بإخلاص وإتقانٍ إن كان في عمله، أو مشتغلاً بقراءة القرآن وذكر الله، وتنمية أعماله بكل حسنةٍ ومبرّة، بعيداً عن مجالس السوء. وقد يكون مناّ من زاد على هذا وذاك فأخلى قلْبَه من كل شيء سوى الله تعالى، حتى لتحسبه خارج مدار الأرض الفانية، فالقلب في معراج دائم إلى ملكوت الله، واللسان في دوراتٍ مسترسلة من الذكر، والجسد بأعضائه وجوارحه منشغل بالقيام فيما يرضي الله، والعقل منغمر في محراب الكتابيْن المقروء والمنظور لا يفتر عن التأمل والتدبر في سبيل تصفية الروح من بقايا الأكدار. وهذا صوم الربانيين الذين هم عملةٌ نادرة جدّاً جدّاً في زماننا هذا. هذه الأقسام هي التي عناها الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين، كتابِ أسرارِ الصوم، فقال: "اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق، وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنيَّة والأفكار الدنيوية وكفُّه عما سوى الله عز وجل بالكليُة" ومن رحمة الله علينا أنه لم يلزمنا أن نكون من الطبقة الثالثة عدّاً الأولى منزلة وقرباً، لأننا بشر ولسنا ملائكةً. ولكنه أيضا أمرنا ألاّ نبقى في حضيضِ الصيام وخضخاضِه، أيْ في الدرجة الأولى عدّاً والأخيرة منزلةً عنده. فإذنْ، ليس هناك أعظم من الدرجة الوسطى التي تعبّر عن وسطيّة الإسلام واعتدالِه وواقعيّته، فمن صامَ بتلك الطريقة، فظنّنا أنه صامَ إيماناً واحتساباً، وأنه أتى بأفضل صيام، وسيكون إن شاء الله من المفلحين.
اللهم اجعلنا من المفلحين الذين يصومون رمضان إيماناً واحتساباً، آمين. والحمد لله رب العالمين.