وحدُهم الأدباء و الشعراء لازالوا يملكون احتياطاً من المشاعر اتجاهك أيها الإنسان في وقت نضبت فيه الأحاسيس و اضمحلت فيه المبادئ و القيم. كثيراً ما نمُر على مصطلح الأدب مرور الكرام، دون أن نلقي له بالاً أو نتساءل عن جدواه في زمن الاضمحلال و النضوب هذا، في زمنٍ يجزُّ بنو البشر رقاب بعضهم البعض دون اكتراث من أحد. فلا ضيرَ إذن أن تجد بعض المثقفين و المفكرين لا يرَون في الأدب إلا ضربا من ضروب التخييل الوهمي الذي لا يغني و لا يسمن من جوع. إن ظهور الأدب و تطوره مرتبط أيما ارتباط بحياة الإنسان، فهو مجال تخييلي بامتياز يرافق تغير تجاربه و تعقد همومه و كرباته، و هو بهذا المعنى فنٌّ لا يتْقنهُ الكثير من الناس، و متنفسٌ للحرية يتخذه الأديب مكاناً لوصف أحاسيسه و التعبير عن مشاعرهِ اتجاه الطبيعة و المجتمع. و لعل ما يتناساهُ الناس في هذا الصدد هو أن الأدب كثيراً ما وُفِّق في التعرضِ للقضايا الكبرى للإنسانية و تقديم حلول ناجعة لإشكالاتها. لا مراء أن إشكال الصراع الهوي و التصادم الحضاري الذي نعاني منه ويلاته اليوم -على سبيل المثال- وجَد حلولا مختلفة و متعددة في التخييل الأدبي، إذ نجد الأديب المغربي عبد الكبير خطيبي و الكاتب اللبناني أمين معلوف يقترحان علينا نظرية الهوية المركبة أو الهوية الهجين كحل لتجاوز أزمة التصادم الثقافي و درئ شر الفتن. و بعيداً عن هذا، يؤكد لنا الأديب الفرنسي باتريك موديانو و أنصاره أن تناسينَا لماضِينا و حضارتنا الفكرية مؤداهمَا لا محالة إلى فقدان الهوية و التخبط في وحلِ التخلف و ركوب صهوة النسيان. و لأن ريحا هبتْ بما لا يشتهي المرءُ، فإن إيقاع حياة التقنيةِ المتطورة جعلت من رؤية الأدب مغنما صعب المنال عند الكثير من الخلق. لربما لسنا الوحيدين من بين الدولِ، مِمنْ أقصينا الأدب و أشكالهُ و ألقيناه في سلة الإهمالِ، لكن يبدو أن حداً أدنى من التقدير و الاعتراف يفترض بنا أن نقوم به، و إلا ما فائدة و جود وزارة ثقافة إذا ما تمَادينا في انتصارنا للعلوم الحَقة و اعتبرناها الخلاص الوحيد من أزمة التقهقر و التخلف هاته التي لازلنا ندب في دواليبها. جميلٌ أن تحضر أمسية شعرية فترى كلمات الشاعر و قد تخللتها هتافاتٌ و تصفيقاتٌ من الحضور و هو يتذوقون حلاوة العبارة بشغف و حب، بل و مذهلٌ أن تمرَّ على حديقة للترفيهِ و الاستجمامِ و تجد بعض الناس قد انكبوا على روايات " مارسيل بْروست" و "كابرييل كارسيا ماركيز" و أحلام مستغانمي... و هو يلتهمونها حق الالتهام، بيد أن الأمر لا يبدو عاديا و سَاستنا لا يترددون في السخرية و الاستهزاء من حاملي الشواهد في الشعب الأدبية، هذا فضلا عن عدم ترددهم في إغلاق معاهد الأدب كما هو الشأن بالنسبة لمدارس الأقسام التحضيرية للآداب و العلوم الإنسانية التي تم إقفال أبوابها منذ سنوات خلت، على نار هادئة و لحاجة في نفس يعقوب قضاها. و من عجيب القدر، أنه في الوقت الذي تضافرَ المتضافرون في تهميش الأدب و تغريبه عن حياة الإنسان، وَلَّينا ما نحن عليه الآن من تراجع علمي و اضمحلال فكري يحسدُنا عليه الحساد و يغبطوننا فيه الغابطون؟! فلنهنأ إذن بوطن ٍ قد دبَّر الأمر فأحسن التدبيرَ، ثم دمر فأحسن التدميرَ!