حسن العاصي / كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك بعد عشرين عاماً على اندلاع الثورة الجزائرية المباركة التي انطلقت في 1/11/1954 وأشعل شرارتها أبطال جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي البغيض، وقف الزعيم الراحل “ياسر عرفات” في قاعة المؤتمرات التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وألقى خطاباً تاريخياً مستلهماً الدروس النضالية من التجربة الكفاحية للشعب الجزائري البطل وثورته العظيمة. إذ أن الدبلوماسية الجزائرية نشطت في سبعينيات القرن العشرين بقيادة الرئيس “عبد العزيز بوتفليقة” الذي كان يشغل منصب وزير خارجة الجزائر آنذاك، وساهمت بفعالية في قيام الأممالمتحدة بدعوة الزعيم الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات” لإلقاء خطابه الشهير الذي قال فيه ” لقد جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي … الحرب تدفع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين”. وكانت هذه سابقة تاريخية لم تشهدها قاعات المنظمة الدولية من قبل، أن تدعو رئيس حركة تحرر وطني ليقف ويخاطب العالم من منبرها. كان هذا الحدث في 13/11/1974 خلال انعقاد الدورة التاسعة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وبعد تسعة أيام من خطاب “أبو عمار” في 22/11/1974 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم “3236” المتعلق بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وفي اليوم ذاته أصدرت الجمعية العامة أيضا القرار رقم 3237 ومنحت فيه منظمة التحرير الفلسطينية صفة المراقب في الجمعية العامة. كانت الدبلوماسية الجزائرية قد استغلت عدة عوامل كانت قائمة في تلك الفترة أحسنت توظيفها لخدمة القضية الفلسطينية وقد نجحت بذلك نجاحاً باهراً. من تلك العوامل ما صدر عن مؤتمر القمة العربي السابع الذي انعقد في العاصمة المغربية الرباط بتاريخ 26-30/10/1974، والذي اعتبر منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ثم القرارات التي كانت قد صدرت عن حركة عدم الانحياز، ومنظمة المؤتمر الإسلامي القاضية منح “م ت ف” العضوية الكاملة في المنظمتين. ولا شك أن نمو حركة التحرر الوطني الفلسطينية وتصاعد نضالها ضد إسرائيل، وكذلك اتساع رقعة الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية والمؤيدة لكفاح الشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافه الوطنية، قد ساهما في نجاح الدبلوماسية الجزائرية على تحقيق هذا الاختراق التاريخي لصالح القضية الفلسطينية. الثورة العظيمة احتلت القوات الفرنسية البغيضة الجزائر العام 1830 ومارست بحق الشعب الجزائري أقسى أعمال الظلم والاضطهاد، وقامت بتأسيس المحاكم العسكرية ونصبت المشانق للثوار. استمر نضال الشعب الجزائري ضد المستعمر وتصاعد حتى بلغ أوجه في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر العام 1954 لتنطلق الثورة الجزائرية الكبرى، التي استمرت سبع سنوات ونصف من الكفاح الدامي البطولي، وتنتهي بانتصار الثوار والمجاهدين على القوات العسكرية الفرنسية، انتصار الحق على الباطل، والإرادة الحرة على عنجهيات المستعمر، ولم يكن الثمن رخيصاً، بل ثمناً باهظاً، حيث قدم الشعب الجزائري مليون ونصف المليون شهيد على مذبح التحرر والاستقلال. إن الثورة الجزائرية العظيمة، تتبوأ مكانة مهمة ومتميزة على المستوى العالمي والتاريخي إلى جانب الثورة الأمريكية العام 1776 والثورة الفرنسية العام 1789 وكذلك الثورة البلشفية في روسيا العام 1917 والثورة الإيرانية العام 1979 والثورة المصرية العام 1952. من الصفحات المضيئة في تاريخ الثورة الجزائرية العظيمة أنها تمكنت من إسقاط سبعة حكومات فرنسية ” حكومة مونديس فرانس، وفي موللي، ثم بورجي مونوري، ثم أدكار فور، حكومة فيليكس كايار، حكومة موللي الثانية، وفليملان” بل أنها استطاعت تقويض أركان الجمهورية الفرنسية الرابعة، وألحقت الهزيمة بقوات الجيش الفرنسي المدججة بأحدث أنواع الأسلحة بعد أن أذاقته الذل على يد مناضلي الثورة. لذلك لقد ألهمت الثورة الجزائرية كافة أحرار العالم وساهمت في تحرير دول القارة السمراء، مما جعل الزعيم الثوري الإفريقي “إميلكال كابرال” يطلق عبارته الشهيرة “إذا كانت مكة قبلة المسلمين، والفاتيكان قبلة المسيحيين، فإن الجزائر قبلة الثوار”، بهذه الكلمات لخص الزعيم الغيني صدى ومفاعيل الثوة الجزائرية التي شُدت لها الأنظار في خمسينيات القرن العشرين، وكانت المثال لجميع حركات التحرر الوطني في العالم لتحقق حريتها. لقد شكلت الثورة الجزائرية قدوة للكثير من شعوب العالم الخاضعة تحت نير الاستعمار، وخاصة شعوب القارة الإفريقية، حيث فتحت ذراعيها أمام قادة وكوادر حركات التحرر الإفريقية وقدمت لهم التدريب والمساعدات. وقد كانت الجزائر الحاضن الثوري للعديد من أبرز القادة الأفارقة الذين خاضوا معارك التحرر في بلدانهم بدءًا بالزعيم “نيلسون مانديلا ورفيقه ديسموند توتو، توتو وجوشوان نكومو وروبيرت موغابي في زيمبابوي وسامورا ماشل في الموزمبيق وباتريس لومومبا في الكونغو واميلكال كابرال في غينيا وسام أنجوما في ناميبيا”. الجزائروفلسطين علاقات تعمدت بدماء طاهرة منذ القدم ارتبطت الجزائر والشعب الجزائريبفلسطين وأرضها المباركة ارتباطاً روحياً عميقاً، حيث في الوعي الجمعي الجزائري تتجذر فتوى الجزائري الإمام الإصلاحي الثوري العلامة ” عبد الحميد بن باديس” الذي اعتبر أن من يحج إلى مكة لا يكتمل حجه إلا بالصلاة في المسجد الأقصى، وأضاف أن القدس مثل مكة الدفاع عنها فرض على كل مسلم. فمنذ دخول الإسلام إليها، ارتبطت الجزائر وبلدان المغرب العربي بفلسطين تاريخياً، حيث توجد مدينة القدس، وإليها كان الجزائريون يشدون الرحال لإتمام العبادات. كما شارك الجزائريون والمغاربة عموماً في الدفاع عن بيت المقدس في جيش “نور الدين زنكي” ومن بعد في جيش “صلاح الدين الأيوبي” في حروبهم ضد الصليبيين لتحرير بيت المقدس. وقد استشهد الكثير منهم في تلك المعارك ودفنوا في القدس التي رووا أرضها بدمائهم الطاهرة. في العهد الفاطمي قدم كثير من المغاربة والجزائريين إلى مدينة القدس – وكانوا محاربين في الجيش الفاطمي- وقاموا ببناء “حارة المغاربة” في الجهة الجنوبية من القدس بالقرب من الحرم القدسي، وأقاموا فيها، وبعد تحرير المدينة رفض العديد منهم العودة إلى ديارهم وفضلوا البقاء في المدينة المقدسة. في العصر الحديث ومنذ وقت مبكر، حتى قبل اندلاع الثورة الجزائرية المباركة استحوذت فلسطين وقضيتها وشعبها على اهتمام الشعب الجزائري، حيث ورد في العديد من الدراسات أن أحد قادة الحركة الوطنية الجزائرية وهو “مصالي الحاج” كان قد التقى في بدايات الثلاثينيات من القرن العشرين بقادة العمل الفلسطيني، من بينهم الشيخ “أمين الحسيني” و “أحمد حلمي باشا” رئيس حكومة فلسطين لبحث تقديم الدعم لهم، وكان ذلك في العام 1931. لم يتأخر الجزائريين ولا المغاربة عن نصرة فلسطين وأهلها وقضيتها ومدها بالسلاح والمقاتلين والمال، ونظموا حملات تعبئة وتضامن وجمع أموال لدعم الثوار الفلسطينيين، إن كان في ثورة العام 1936 أو في حرب العام 1948. وتم تأسيس “الهيئة الجزائرية لمساعدة فلسطين العربية”. الجزائريين اشتركوا بفعالية في القتال ضد الاستعمار البريطاني في فلسطين خلال الثورة الكبرى العام 1936. كما أرسلت “الهيئة العليا لإغاثة فلسطين” التي شكلها علماء الدين والوطنيين الأحرار حوالي مئات المجاهدين إلى فلسطين في العام 1948، إضافة إلى مساهمة الجزائريين المقيمين أصلاً في القدس بعشرات المعارك ضد الصهاينة. وبعد أن نالت استقلالها قامت الجزائر بافتتاح مكتب لحركة التحرر الوطني الفلسطيني “فتح” ترأسه الشهيد “خليل الوزير” حيث كان هذا المكتب نافذة الحركة نحو حركات التحرر العالمية. وأخذ الشباب الفلسطيني يتوافد على الجزائر إما للتدريب العسكري، وإما للدراسة في المعاهد والجامعات الجزائرية، حيث تمكنوا من الالتقاء بوفود من دول أخرى للتعريف بالقضية الفلسطينية وأهدافها. ودفعت الجزائر بقوة لإنشاء “منظمة التحرير الفلسطينية” في القمة العربية التي عقدت في القاهرة العام 1964. ومنذ ذلك التاريخ لم تفارق القضية الفلسطينية أجندة الدبلوماسية الجزائرية، ولم توفر الجزائر جهدا يذكر في دعم الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية لا سياسياً ولا مالياً ولا دبلوماسياً ولا عسكريا بدون أي تردد. بل أن الزعيم “هواري بو مدين” قال في اختتام مؤتمر الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي انعقد في الجزائر العام 1974 “عندما انعقد مؤتمر القمة العربية الأخير في الجزائر، وضعنا كشرط أساسي لأي عمل عربي موحد في المستقبل هو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني”. قد يختلف الجزائريون فيما بينهم على قضايا متعددة سياسية أو فكرية، لكنهم يجمعون على حب فلسطين والشعب الفلسطيني، ومتفقون على دعم قضيته الوطنية حتى ينال حقوقه ويبني دولته وعاصمتها القدس الشريف التي يحملها الجزائريين في قلوبهم وفي وجدانهم الوطني والديني والإنساني أينما رحلوا وأين اقاموا. تماماً كما يتفقون على الثورة الجزائرية ورموزها ووحدة الجزائر، والتي هي من ضمن جملة الخطوط الحمر التي لا تحتمل النقاش في الشارع الجزائري. وصل حب فلسطينبالجزائريين أن قاموا بتشجيع الفريق الفلسطيني لكرة القدم خلال مباراة جمعته مع المنتخب الجزائري في العام 2016، وأي شعب حر ومحب لفلسطين يفعل هذا سوى الجزائريين؟ وهذا التضامن مع الفريق الفلسطيني ليس تشجيعاً عاطفياً عابراً، بل هو انحياز لفلسطين التي تأصل اسمها وقضيتها وقدسية أرضها في عمق الوجدان الجزائري، ليس فقط بسبب روابط العروبة والدم والعقيدة وغيرها فحسب، إنما أيضاً بسبب المظلومية التي وقعت على الجزائريين من الاستعمار الكريه، وهذا ما يحصل مع الشعب الفلسطيني. بهذا السياق وضمن الوعي الجمعي لا يمكن للجزائري أن يقبل فكرة التطبيع مع إسرائيل، وأن هذا الأمر وجهة نظر سياسية. بل أن الموقف الشعبي يكبح اية محاولة لدى بعض النخب لتطبيع ثقافي أو تجاري مع الكيان الصهيوني بحجة الحداثة، كما يحصل في العديد من الدول العربية. لا تجد في الجزائر من يضع القضية المركزية فلسطين محل اختلاف، لا من السلطات الحاكمة ولا من المعارضة السياسية. فلسطين حاضرة بقوة في قلب الطالب الجزائري والمرأة الجزائرية، حتى الأطفال يتعلمون حب فلسطين والأقصى من ذويهم الذين يخبروهم أن لهم في تلك المدينة المقدسة المحتلة “حي المغاربة” وهو وقف تاريخي ونضالي للجزائريين. دروس الثورة الجزائرية للثورة الفلسطينية صنع الاشقاء الجزائريون واحدة من أعظم الثورات في العالم استمرت حوالي ثمانية أعوام، نال على أثرها الشعب الجزائري استقلاله وحريته، وانتصر على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي امتد نحو مائة وثلاثين عاماً، حاول خلالها المستعمر طمس الهوية القومية للجزائر وتشويه عمقها الثقافي والإسلامي، بهدف تكريس التبعية السياسية والاقتصادية. تماماً كما فعل ويفعل الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني البطل. انتصرت الثورة الجزائرية ووضعت حداً ونهايةً لواحدة من أبرز وأخطر تجارب الاستعمار، جسّد خلالها الشعب الجزائري نموذجاً للفداء والتضحية، ومثلت ثورته نقطة تحول كبيرة وفصلاً جديداً في تاريخ مقاومة الشعوب لجلاديها. انتصرت الثورة الجزائرية المباركة على الرغم من التباين الكبير في ميزان القوى والإمكانيات والعدة والعتاد، نحن نتحدث هنا عن الفرق بين فرنسا الدولة المستعمرة ذات التاريخ الكولونيالي والمقدرات الكبيرة، وبين الجزائر التي لم تكن تمتلك إلا شعباً عظيماً لديه إرادة فولاذية، شعباً لا يقبل الهوان والظلم. نجح الشعب الجزائري وثورته الميمونة في انتزاع الاستقلال، نتيجة الانضباط الشديد فيما يتعلق بالاختلافات الداخلية في البيت الجزائري، وسعت قيادة الثورة إلى تعزيز وحدة الصف الوطني وصولاً إلى الانتصار. ولم تنفجر الصراعات الداخلية فيما بين أجنحة الثورة رغم أنه جرت عمليات اغتيال وتصفية رفاق الدرب، ورغم جميع محاولات التآمر الداخلية والخارجية، إلا أن الثورة لم تنحرف عن هدفها الأساسي، ولم تغرق في التناقضات الثانوية وبالتالي لم تعرف مرحلة الاحتراق الذاتي. بقيت جميع فوهات البنادق موجهة نحو العدو الرئيسي وهو الاستعمار الفرنسي الكريه، وهذا أول وأهم درس استراتيجي يمكن نقله من التجربة الثورية الجزائرية لشقيقتها الفلسطينية. الدرس الثاني هو أهمية وحدة الموقف والهدف. فقد تشكلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في بداية العام 1955 من أبرز الأحزاب الوطنية “جمعية العلماء برئاسة الشيخ محمد البشير الابراهيمي، وجماعة مصالي الحاج، وحزب البيان برئاسة فرحات عباس، واللجنة المركزية المنشقة، وثلاثة من قادة جيش التحرير الناشىء في الجزائر وهم أحمد بن بلة، ومحمد خيضر، وحسين آيت أحمد”. هؤلاء جميعاً وقعوا على اللائحة الداخلية لجبهة التحرير الوطني والتزموا بنهج المقاومة بقيادة جيس التحرير. ثالث الدروس الثورية التي يمكن نقلها للتجربة الفلسطينية متعلق بإدارة المفاوضات. لقد أقدمت الثورة الجزائرية على العملية التفاوضية من موقع القوة التي فرضها المجاهدين بصلابتهم في أرض المعارك، ولم تقدم الثورة على المفاوضات نتيجة ضعفها وهزيمتها، لأن العمل السياسي لا يعني بحال التفريط بالثوابت الثورية، ولا يمكن لهذا الحراك السياسي أن يتجاوز الخطوط التي حددتها الثورة. لذلك لم تقدم الثورة الجزائرية على تنازلات استراتيجية تفرط بتضحيات الشهداء، بل رفضت فكرة توقف القتال ثم التفاوض كما اقترحت فرنسا حينذاك، بل استمرت في القتال والتفاوض كمسارين متوازيين حتى انتصرت واعترفت فرنسا باستقلال الجزائر. اختارت الثورة الجزائرية إطلاق شرارتها الأولى في ظل ظروف مواتية، حيث كانت فرنسا ذاتها تلوك مرارة هزيمتها من ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وكانت أيضاً متورطة في حرب الهند الصينية، وكانت مصر عبد الناصر في ثورة ألهمت الشعوب العربية وأنعشت آمالهم القومية. وقد انحازت الثورة الجزائرية في صراعها ضد الاستعمار الفرنسي إلى عمقها العربي والقومي، وتمسكت بهويتها الإسلامية، ولم تنغلق على ذاتها. انفتاح وانحياز للعمق القومي، إضافة إلى اختيار التوقيت الأمثل لبدء معركة ضد العدو، إضافة إلى وحدة الصف والهدف ووضوح الرؤية، هي أهم الاستخلاصات التي يمكن أن تشكل نقاطاً مضيئة لكل قارئ فلسطيني للثورة الجزائرية، بهدف الاستفادة والتعلم والأخذ بأسباب انتصارها، كل هذا مع إدراك السياقات التاريخية سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً للثورة الفلسطينية، ومحاولة استلهام روح الثورة الجزائرية لتجاوز حالة الإخفاق والاستعصاء التي تعيشها حركة المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة، في ظل انقسام وطني، وتشتت الجهود والمقدرات، واستنزاف الطاقات الفلسطينية، مما أدى إلى وضع شائك معقد وخطير تعيشه الساحة الفلسطينية. أخيراً وليس آخراً، فإن الشعب الجزائري الشقيق الذي وافق على التنازل طواعية عن العديد من حقوقه في سبيل حماية الوطن خلال الثلاث عقود الماضية بعد العشرية السوداء، هذا الشعب ذاته تحرك سلمياً ورفع صوته مطالباً بإجراء إصلاحات جذرية في بنية النظام حفاظاً على الوطن أيضاً، إذ أثبت الشعب الجزائري سلميته ووعيه وحضاريته حين أعلن التصاقه بوطنه وحرصه على وحدته وإصراره على تحقيق مطالبه دون اللجوء إلى أية وسيلة عنفية، وهذا ما يشكل نموذجاً لتصحيح مسار الحراك الجماهيري في الدول العربية، ويمنح الشعب الفلسطيني فرصة لرفع صوته ضد الفاسدين والمنتفعين والمتكلسين والانتهازيين في كافة مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ودوائر السلطة الوطنية. الجزائر تعتب على الأشقاء يقول بعض المثقفين والسياسيين الجزائريين بعتب ومحبة، أن القيادة الفلسطينية تعلم جيداً أدق التفاصيل التي مرت بها الثورة الجزائرية، على الصعيدين العسكري والسياسي، وتجربة الثوار الكبيرة في التمرس بفن إدارة المفاوضات، حيث رفض المجاهدين الجزائريين أكثر من مرة طلب القوات الاستعمارية الفرنسية بدء مفاوضات بين الجانبين مع وقف القتال، خاصة في العام 1957 وفي العام 1959، وأصرت قيادة الثورة على إجراء مفاوضات مع استمرار القتال. لذلك لا تستطيع الجزائر حكومةً وشعباً أن تنظر بعين الرضى لسياسة المفاوضات مع العدو الصهيوني، التي اتخذتها القيادة الفلسطينية كخيار استراتيجي، ويؤلمها كثيراً ويغضبها ما يسمى “التنسيق الأمني” بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي، وهو أمر لا يمكن أن تسامح به الجزائر، ولا أن تفهم المبررات التي تقدم لها من قبل القيادة الفلسطينية. الجزائر التي تعتبر القضية الفلسطينية قضية وطنية قدمت لأجلها كل غالٍ ونفيس، يحزنها كثيراً الحال الذي وصلت إليه هذه القضية، وحال الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية من انقسامات وتشرذم وضعف، أصابهم في مقتل. الأمر الذي يفسر ربما الفتور الملحوظ الذي أصاب العلاقات الجزائريةالفلسطينية خلال الأعوام الأخيرة، الأمر الذي يضع تحدياً أمام الدبلوماسية الفلسطينية لترميم جدران هذه العلاقة، ويضاعف المسؤوليات التي تضطلع بها السفارة الفلسطينية في الجزائر. إن النهوض الثوري للشعب الفلسطيني ما زال إمكانية متاحة، فهو شعب قدم وما زال الكثير من التضحيات، ويمتلك خبرة نضالية في مواجهة المستبد الصهيوني. وحتى يتمكن الفلسطينيين من تحقيق أحلامهم في الحرية والتخلص من قبضة المحتل وبناء الدولة المستقلة، عليهم أن يحسنوا توظيف طاقاتهم البشرية والمادية والمعنوية، وكذلك الاستعانة بكل ما تمتلكه الأمة العربية ومن شأنه أن يعزز الصمود الفلسطيني. على الفلسطينيين أن يستلهموا الدروس والعبر من تجربة الثورة الجزائرية، بهدف تحويل حلم بناء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف إلى واقع. الشعب الجزائري صنع ثورته الميمونة التي أدت إلى قيام وبناء دولة الجزائر الحديثة كما نعرفها. دولة لها ثقلها ووزنها المغاربي والعربي والإفريقي والإقليمي والعالمي. توحد الجزائريون خلف ثورتهم وقيادتهم فكتب لهم النجاح. آمنوا بمشروعهم النهضوي دون تغريب فبنوا دولتهم. وهذا ما نأمل أن يفعله الفلسطينيين.