انكبّت عدّة مراكز للدراسات والأبحاث الأمريكية على دراسة واقع التديّن بالعالم الاسلامي على اختلاف قناعاتها ومشاربها والأهداف المتوخّاة من ورائها، نذكر منها دراستين هامّتين: الدراسة الأولى: لمعهد كالوب الخاصّ بالقضايا السياسية والمجتمعية داخل الدوّل الإسلامية والذي اهتم بمواضيع كثيرة كالمرأة والجهاد والإرهاب وصورة الغرب داخل هذه المجتمعات وغيرها،بينما بقيت هذه الدراسة سطحية ولم يعوّل عليها في الاستطلاعات والتقارير ذات الصبغة العلمية.
والدراسة الثانية: التي مكّنت معهد بيو للدراسات والأبحاث المتخصّص في الدين والحياة العامة بواشنطن في نفس السياق بالانفراد بالصّدارة في هذه الأبحاث حيث أقبل على دراسة "مستقبل العالم الإسلامي" شملت 232 دولة من وجهات مختلفة ومتعدّدة، خرجت بنتيجة غير متوقّعة تفيد أنّ عدد المسلمين سنة 2030 سيعرف نموّا سريعا إذ سيصل إلى نسبة 26,4% من مجموع سكان العالم، وأوضحت نفس الدراسة بأنّ ربع سكان فلسطين المحتلّة سيكون مسلما في سنة 2030 بمعدّل 23,2% بعدما كان في سنة 1990 لا يتعدى 14,10% فقط والذي سيمثّل 2,1 مليون نسمة.
بينما فيما يخصّ الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية التي تصل نسبتهما السكانية إلى ربع سكان العالم الإسلامي فسيعرف زيادة سريعة في العراق ليتجاوز الجزائر والمغرب ويتبع مصر التي تعتبر أكبر بلد إسلامي بهذه المنطقة. وتبقى تعيش الأغلبية العظمى بآسيا التي تحتضن نسبة 60% من مسلمي العالم، كما أنّه من المرجّح أن تحتلّ باكستان الصدارة لتتقدّم على إندونيسيا صاحبة أكبر نسبة سكّانية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيتسارع هذا النموّ الديموغرافي بجنوب صحراء إفريقيا بنسبة 60% في العشرين سنة المقبلة.
أمّا بالقارّة العجوز أوروبا سيتجاوز المسلمون من 6 إلى 8 % بنسبة مرتفعة ببريطانيا والنمسا والسويد وبلجيكا، ويبقى معدّل المسلمين في ارتفاع مستمّر في كل بقاع العالم،ففي فرنسا وحدها سيصل إلى 10% في سنة 2030،وبإضافة بلجيكا إليها سيتجاوز المعدّل الرمزي لأوّل مرّة والذي يقدّر اليوم ب7,5% أي 4،7 مليون نسمة حاليا من عدد السكان الفرنسيين ليصل إلى10,3% يعني 6,86 مليون لتحتل بذلك الدرجة الأولى بأوروبا.
كما أجرى معهد بيو كذلك دراستين معمّقتين تعتبران من أهم المستجدات في البحوث العلمية على الساحة الدولية التي اهتمّت بالشؤون الدينية الخاصّة بحياة المسلمين اليومية في أكثر من 39 دولة، شملت أكثر من 38.000 عيّنة أي ما يمثل 67% من مجموع السكان ومن كل الطبقات المجتمعية باستثناء سوريا والمملكة العربية السعودية والهند والصين.
الدراسة الأولى : امتدّت حسب التقرير لمدّة سنة من سنة 2008 إلى سنة 2009 ، تطرّقت فيها لموضوع "التوتّر والتسامح بين الإسلام والمسيحية في المنطقة الإفريقية جنوب الصحراء".
والدراسة الثانية: استمرّت لمدّة أربع سنوات من سنة 2008 إلى سنة 2012 . هذه الدراسة المستقلة ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية حول واقع التدين عند المسلمين وما يتوقّعه 1،6 مليار مسلم (الذي يفوق ربع سكان العالم) في أقلّ من عقدين،بحيث اعتمدت فيها على لقاءات حيّة واستجوابات مباشرة للتطرّق إلى كل جوانب هذا الاستطلاع العلمي الموسّع، والذي خلُص إلى ما خلص إليه من نتائج غير متوقّعة، حملت مستجدات وأثبتت مفاجئات، تشير إلى تزايد ظاهرة عودة المسلمين للدين الإسلامي الذي أصبح يمثل جانبا مهما في حياتهم اليومية . هذا، وكشفت هذه الدراسة المستفيضة أنّ الغالبية العظمى من العالم الاسلامي تتمنى أن تحكم بلادها تعاليم الشريعة الإسلامية وتخضع للقوانين الإلهية،رغم بعض الاختلافات والتفاوت في النسب من شخص لشخص ومن بلد لبلد آخر.
والشيء اللافت للأنظار في هذا الاستطلاع الذي صدر بواشنطن يوم الثلاثاء الماضي يبيّن أنّ أكثر من 75% ، يعني ما يفوق ثلاثة أرباع المسلمين يطمحون في تحكيم قضاياهم الأسرية وحياتهم اليومية ومشاكلهم المجتمعية إلى محاكم الشريعة الإسلامية،بنسب متفاوتة أذناها كان في أذربيجان بنسبة 8% وفي أفغانستان بنسبة عليا وصلت إلى 99% ووافقت عليها باكستان ب 84% واختار 96% حرّية الاعتقاد. والجدير بالذكر، أنّ العديد من الفقراء والمضطهدين في بعض هذه الدوّل تطالب بالإنصاف والعدالة الاجتماعية في ضلّ المساواة التي تفرضها المبادئ الأساسية لقيّم الشريعة الإسلامية،لتتجاوز نسبة المؤيّدين لهذا الطرح 77% في مصر و96% في باكستان و 97% في بنجلاديش. وهذه بعض التفاصيل الخاصّة بهذا الاستطلاع:
1) عقوبة الحدّ والقصاص: اختلفت الآراء حول تطبيقها على المرتدّ والسارق والزاني وغيرهم..بحيث تفاوتت النسبة في كثير من البلدان من مؤيّد ومعارض، فأيّدها عدد محدود باستثناء أفغانستانوباكستان ووصل معدّل المؤيّدين بشمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى 50% ، في حين ثلاث أرباع من سكان جنوب آسيا لا تختلف عن طرح الشريعة. بينما معظم المسلمين في العالم الذي تجاوز أكثر من أربعة أخماس من المجموع يتساءل عن سبب تخوّف الغرب من الشريعة، إن كانوا هم لا يرون تطبيق الشريعة على غير المسلمين ويؤيّدون أطروحة ممارسة شعائر الآخرين الدينية بحرية وبدون قيود.
2) التطرف والعنف الديني: رفض بالأغلبية ووصلت النسبة إلى 55% بمصر وتونس والعراق،كما اشتكت بعض الأقليات المسيحية من التضييق على حرّيتها الدينية والمتضرّرة من بعض أشكال التمييز في بعض المجتمعات الإسلامية.
3) الشريعة والحداثة: أشار الاستطلاع إلى أنّ عددا كبيرا من المسلمين لا يرى أيّ تناقض بين الحياة العصرية والالتزام بالتعاليم الإسلامية ويتحمّسون إلى الديموقراطية على رغم من مساسها بالقيّم والأخلاق،بينما استحسن البعض الديمقراطية في ضلّ اختلاف الآراء وفي خضم كل هذه المفارقات حول موضوع العلاقة بين السياسة والإسلام ،فقد أيّدتها لبنان بنسبة 81% وتونس ب 75% وبنغلاديش ب 70% ومصر ب 55% والعراق ب29% بينما تدنّت النسبة بباكستان إلى 29%.
4) التفجيرات الانتحارية: رفضتها أغلب الدوّل المستجوبة وأيّدتها بنجلاديش بنسبة 26% ومصر ب29% و أفغانستان ب39% و الأراضي الفلسطينية المحتلّة ب40%.
5) تعاطي الممنوعات والمحرّمات: اعتبر السّواد الأعظم من المسلمين تعاطي المخدرات والخمور والإقدام على الانتحار متنافية مع الذوق السليم والأخلاق النبيلة التي جاء بها الدين الإسلامي، في حين رفض أكثر من 80% الشذوذ والمثلية الجنسية و75% ممارسة الجنس خارج إطار العلاقة الزوجية.
6) ارتداء الحجاب : أمّا فيما يخصّ اختيار المرأة للحجاب بإرادتها فقد رفضت هذا الاقتراح نسبة 30% بأفغانستان،و45% بالعراق، بينما أيّدته 79% بإندونيسيا ، و89% بتونس. كما أشار جزء من الاستطلاع على أنّ غالبية من النساء كالرجال ترى طاعة المرأة لزوجها واجبة خاصّة بالمغرب وتونس واندونيسيا والعراق وأفغانستان وماليزيا، في حين أيّدت بالأغلبية الساحقة طاعة الزوجات لأزواجهن ب96% بماليزيا و74% بلبنان.
7) التوثّرات بين الشيعة والسنّة: شمل الاستطلاع كذلك قضية النزعات الطائفية والتوتّرات بين الشيعة والسنّة حيث عارضتها 14% بتركيا ،و23% بالعراق ، و34% بباكستان ، و38% بلبنان.
8) التعدّد: هناك تضارب في الآراء ففي النيجر مثلا يعتبر87% من سكان هذا البلد تعدّد الزوجات محبّبا ومقبولا بينما لا تتجاوز نسبته 4% في البوسنا والهرسك كأقلّ نسبة مائوية مسجّلة في هذا التقرير.
9) جرائم الشرف: برّرتها نسب قليلة ببنغلاديش ومصر وأفغانستان والأراضي الفلسطينية،ورفضتها بنسبة 81% من مسلمي أمريكا مقابل 72% في بقية الدوّل الإسلامية الأخرى.
شيء مهمّ يمكن استنتاجه من وراء هذه الاستطلاعات المتواصلة هو أنّ الاستعمار الأوروبي العسكري والفكري والأموال الطائلة التي صرفتها وما زالت تعتمد عليها المنظمات الدولية الكبرى لتنصير المسلمين وإفشاء الإلحاد لم تنل من عزيمتهم ، بل زادتهم تشبّثا بعقيدتهم ودينهم أكثر من السابق ممّا أذهل الغرب الذي يتخوّف أصلا من انتشار هذا الدين داخل وخارج صفوف أبنائه.
كما أنّ من شأن دراسة كهذه والظرفية الحسّاسة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية،أن تساهم في تحريك الميّاه الراكدة وتثير الرياّح العاتية خاصّة الأوروبية منها، لتشويه الإسلام وإثارة الشكوك حول العقيدة، وزرع التفرقة بين صفوف المسلمين مع وضع العصا في عجلة التحوّل المفاجئ للعالم الإسلامي ،خوفا من تقويم انتماءهم العقائدي وتقوية أساسهم السلوكي والوجداني.،وتبقى مثل هذه التقارير والاستطلاعات في النهاية لخدمة أجندات خفية من هذه الجهة أو من تلك،ونبقى نحن المستهدفون في آخر المطاف ؟.