الارتباك منع من حدوث مجزرة أكبر كان المطلوب فيها رأس المفوضيةبعد خمسة أيام على حادث إطلاق النار بمشرع بلقصيري، ما زالت المدينة غارقة في تداول التفاصيل المرتبطة بهذا الحادث الأليم. أما انشغال السلطات والأهالي بتهديدات وادي سبو الذي قطع عددا من محاور ولوج المدينة، فلم يمح سطوة الحادث عن دردشات المقاهي والأحياء. »احفظ الله من مصيبة اكبر من هادي»، الكلام لمصدر قريب يحكي عن مجزرة حقيقية كانت ستعرف إطلاق ما لا يقل عن 25 رصاصة كان يمتلكها شرطي مشرع بلقصيري، ولم تكن أهدافه قليلة، بل صادف الحادث اجتماعا كان يضم عددا من نقابيي النقل المزدوج ومسؤولين أمنيين بالمدينة على رأسهم رئيس المفوضية، لكن دقائق معدودات جنبت حدوث هذا المشهد الدموي. حكاية ما وقع لا تختلف كثيرا عما نقل من أخبار متضاربة، لكن التفاصيل التي عاشها أشخاص قريبون من المجزرة، تعكس جزءا مما جرى ظهيرة ذلك اليوم. كان وصول حسن البلوطي إلى مفوضية بلقصيري حوالي العاشرة والنصف صباحا، وتزامن مع اجتماع موسع كان منعقدا برئاسة رئيس مفوضية الشرطة، وباشا المدينة والسلطات المحلية، وأرباب النقل المزدوج بالمنطقة، من أجل مدارسة وضعية النقل السري بالمنطقة. انتظر حسن البلوطي إلى أن ينفض الاجتماع من أجل مقابلة رئيس المفوضية، ليضع حدا لما كان يؤرقه منذ عودته من مهمة خارج المدينة. الرواية التي تحكي عن انشراح حسن البلوطي بعد خروجه من بيته ولقائه بزملائه في المقهى، تجد تفسيرها فيما أسر به للجريدة مصدر قريب، وهو أن الشرطي الذي كان يصر على العودة للعمل بالحاجز الأمني، تلقى عشية ذلك اليوم نبأ سارا من رئيسه بالدائرة الثانية، يفيد بأنه تلقى اتصالا من رئيس المفوضية يطلب منه مفتشا للانضمام للعناصر الأمنية التي ستتكفل بحراسة الحواجز، تعويضا عن الملحقين من الشرطة، استجابة لمطلب تدبيري للشؤون الأمنية للمدينة، فاقترح اسمه على رئيس المفوضية، ووعده «باش يكون خير». كان حسن البلوطي يعلم أن اجتماع صبيحة يوم الأحد سيضع نهاية لوسوسة الحاجز الأمني، فقدم لتلقي الخبر بنفسه ولملاقاة رئيس المفوضية. انتظر طويلا، وفي كل مرة كان يسأل شرطيا مكلفا بالمداومة عن الاجتماع، وعلى حين غرة سينفض الاجتماع دون أن ينتبه حسن البلوطي لذلك. كان المجتمعون يخرجون تباعا، وحين انتبه رجع مسرعا ليسأل الشرطي عن رئيس المفوضية، فاكتشف أنه خرج توا. ولأن ما كان يهمه بالدرجة الأولى هو معرفة نتيجة الاجتماع، فقد سأل رأسا المكلف بالمحضر عن إمكانية إدراج اسمه في قائمة المقترحين لحراسة الحاجز، وحين أخبره بعكس ذلك دخلا في مشادات، لم يكسرها سوى صوت الرصاصات الثمانية التي أفرغها فيه. بعدها، سيتجه حسن البلوطي إلى الطابق الثاني حيث كان مجموعة من زملائه الذين كانوا في المداومة، يبحثون عن مصدر الجلبة التي أحدثتها الرصاصات، وقبل أن يستفيق الرجل من نوبته الدموية، أفرغ ثلاث رصاصات أخرى في رأس وجسد زميله وأعز أصدقائه، سعيد افلاحن. في جو الهستيريا حاول الشرطي الثالث استعطاف حسن متوسلا إليه، فنجح في النجاة من هذه المذبحة بعد أن أصدر القاتل عفوه «سير أنت راك بوفري بحالي». هرع الشرطي ليعرف الجميع أن ما يحدث جد في جد، لكن زميلا كان قد التقى حسن صبيحة ذلك اليوم، لم يصدق، فقرر الصعود لثنيه عما كان بصدده. «يا الله دورت معاه هاد الصباح ما يمكن يدير هاد الشي»، هي ذي آخر الكلمات التي قالها لزملائه المذهولين قبل أن يتجه الى مصيره، وما هي إلا دقائق حتى لعلع صوت الرصاص مرة أخرى. حسن البلوطي أجهز على الضحية الثالث، الذي تلقى رصاصات في جنبه الأيسر وفي قفاه، وهو ما يفسر عدم تمكنه من إقناع زميله بتسليم سلاحه. «كان الله في عون عائلة حسن البلوطي.. وهذا قدرنا» بهيجة، سيدة في منتهى بساطة أهالي مشرع بلقصيري. وجهها الذي علته صفرة الفاجعة، لم تحل دون انفتاح أساريره وهي تستقبل المعزين والوافدين على بيت سعيد افلاحن، أول ضحية للرصاصات التي انطلقت من مسدس أعز أصدقائه. الرأس المطأطأ يخفي هامة نادرة لهذه السيدة وهي تقول بكل أريحية «الله يرحم الجميع ويفك ضيقة الحيين». اغتسلت السيدة بكل السرعة المذهلة من الغضب الذي يمكن أن تكنه لقاتل زوجها، وبكل عظمة البسطاء تسرع في سرد تاريخ الصداقة التي كانت تجمع زوجها بقاتله. تحكي عن عائلته المصدومة من فعلته، وعن ابنته التي تدرس سويا مع ابنتها بإعدادية واحدة، وتجمع كل التفاصيل في حزمة إيمان عظيم. »هاد الشي هو اللي مقدر لنا كاملين»، هي ذي وصفتها لمنع الحقد من لف حباله عليها وعلى أبنائها، قبل أن تفتح صدرها لسرد ما عاشته في ذلك الأحد الحزين. كانت بهيجة التي ترعى أربعة أبناء، قد ودعت سعيد كعادتها لتنغمس في شؤون البيت والاستعداد لعودته لتناول وجبة الغذاء كما اعتاد منذ أربع عشرة سنة. فجأة يطرق الباب أحد الجيران ليسألها إن كانت قد سمعت شيئا عن سعيد. بعفوية نفت الأمر. بعد إصرار السائل على تكرار أسئلته الغريبة، اندفعت الشكوك إلى الزوجة، وما هي إلا دقائق حتى تدفق منسوب الخبر الحزين بالحي. لم تقو بهيجة على ارتداء جلبابها، وبسرعة اندفعت إلى خارج البيت، لتجد أحد جيرانها ينتظر بدراجته النارية. ركبت توا باضطراب لتصل إلى بوابة المفوضية التي أوصدت أبوابها مباشرة بعد ارتكاب المجزرة الرهيبة، لتحسبات أمنية. اندفعت بهيجة إلى الباب وشرعت تطرق بشكل هستيري، أجبر الشرطي على فتحه. ألقت بجسدها المتعب داخل قاعة المفوضية لتجد نفسها في قلب المجزرة، كانت عيناها تبحثان عن تكذيب، وكانت تبحث عن الزوج لطرد الكابوس. فجأة وقعت عيناها على حذاء جثة كانت ملفوفة وسط بركة دماء، فأيقنت أن الأمر قد قضي. إنه الحذاء الذي بصم على حقيقة روعت دواخلها، وأدخلتها في نوبة ما زالت تقاوم كوابيسها. «ابننا ضحية ابتزاز مقيت» حسن البلوطي هو الضحية الرابع لحادث مشرع بلقصيري. الأمر لا يتعلق بانتحار المسؤول عن المجزرة، بل هو حي يرزق بالسجن المركزي بالقنيطرة، ولم تنته محاكمته. إنه الوجه الآخر للتقييم والحكم على ما أقدم عليه في حق زملائه. ”راجلي ضحية.. راه كان الله يعمرها دار”، كانت سناء، زوجة حسن البلوطي، تحكي وهي تغالب دموعها، عن موقف تواجه فيه الرأي العام والفكرة التي تشكلت عن مقترف مجزرة بلقصيري . حاولت جاهدة استرجاع تاريخها الشخصي مع زوجها، فوصفته بالأب الحنون والزوج العطوف ، الذي يعود بعد أي خصام كالطفل يعتذر للابن، ويتوسل للزوجة كي تصفح عن غضبه. سناء سيدة مازالت تحتفظ بلكنة أهل الشمال بحكم السنين التي قضتها رفقة زوجها بمدينة تطوان قبل أن يتم تنقيله إلى مدينة بلقصيري، تنفي كل الصور التي شيطنت زوجها. تنفي عنه إدمانه للسكر، وتعترف بأنه كأي مواطن كان ضحية بليته.”كان كيكمي بحالو بحال بزاف ديال اصحابو”، ترتفع نبرة كلام سناء وكأنها ترافع لدحض كل ما قيل عن سلوك زوجها لتفسير دوافع إقدامه على قتل زملائه، وتستطرد بنفس الشدة في نفي تهمة الارتشاء التي حاول البعض ربطها بالحادث من خلال كشف حالة البيت البسيطة في أثاثه وأوانيه. كان الجو داخل البيت كمأتم. الزوار الذين يأتون للبيت أفواجا يذرفون دموعهم لمواساة عائلة مصدومة، فقدت معيلها الوحيد. كانت البنت الصغرى نائمة في غرفة لم تغادرها منذ الحادث. تسأل عن والدها وعما حصل دون أن تفهم كامل الصورة. في الغرفة الأخرى كان الوضع أكثر مأساوية، شيخ يبلغ من العمر العام الرابع بعد المائة، ممدد في فراش بسيط وبجانبه زوجته المسنة. كان بكاؤهما حارا ومؤلما والجملة التي تتردد “حنا راضين عليه، الله يفك ضيقتو”. من الصعب أن تهزم الصورة العدائية تجاه السلوك الذي قام به حسن البلوطي. كل هذا الوضع الذي خلفه داخل بيته، وكل التفاصيل المؤلمة عن الحياة التي كان يعيشها مع عائلته، فهو الذي كان يرعى والده المسن، يتكفل بإطعامه “سيريلاك” بالملعقة، وكان يصر على تغيير حفاظاته قبل نومه وقبل ذهابه إلى عمله، تماما كما كان يفعل مع زوجة والده المسنة. رواية الزوجة أكدها عدد من الجيران الذين ذهلوا عند سماعهم للخبر، والجملة التي كررها عدد من زملائه هي أنه لم يكن قادرا على”ذبح فروج”. فجأة تحول هذا الرجل الوديع إلى وحش قاتل، وعلى حين غرة انعكست الصورة لترسم بالدم قاتلا لا رحمة ولا شفقة بدواخله. ”الرئيس ديالو هو السبب” هي ذي الجملة الحاسمة التي تدفع بها الزوجة لتفسير ما حصل ظهيرة الأحد الأسود، وبذات اللون تسترسل في حكي علاقة دراماتيكية عاشتها العائلة لأسبوع بعد انقلاب رئيس المفوضية على المقدم حسن البلوطي. في التفاصيل تروي الزوجة عن حكاية الإتاوة التي ظل حسن يقدمها لرئيسه لكي يسمح له بالعمل خارج المكتب، وبالضبط بالحاجز الرئيسي لمدخل المدينة. فمنذ التحاقه بالمدينة، شرع في استقدام مجموعة من الهدايا من الشمال ليبقي على حبل الود مع رئيسه. الزوجة كانت تسرد مساهمتها في هذه اللعبة، وكم من مرة كانت تتكفل بملء “الكروسة” بما تيسر من »الفروماج» و«الشكلاط» والعطور وما جاورها من توابع، رشوة كان يضطر لتقديمها لرئيسه لحفظ الامتياز في حراسة حاجز أمني يحفظ الكثير من أسرار هذه اللعبة المميتة. قبل أسبوع على الحادث، كان المقدم حسن في مهمة بمدينة طنجة خلال الزيارة الملكية للمدينة، وأثناء عودته بدأ سيناريو الدراما في التشكل، فالزوجة التي لم تكن تعرف شيئا عن أسرار زوجها المهنية، بدأت تلحظ تعكرا متصاعدا في مزاجه، قبل أن تستدرجه لمعرفة التوتر الذي طرأ على علاقته برئيس المفوضية. ”راه ما باغيش يرجعني البراج”، هذا كل ما عرفته الزوجة قبل حادث إطلاق النار. في صبيحة ذلك اليوم استيقظ كعادته مبكرا، استحم وخرج لأقرب دكان لجلب الحليب و”بيمو” لابنته الصغيرة قبل أن يتناول فطوره وهو في حالة انشراح. ودع الجميع وخرج ليلتقي بزميل له أقله في سيارته وتوجها صوب مقهى قريب من الحاجز الأمني؛ وما حكي للزوجة هو أنه كان في نفس الانشراح مع زميله الذي أقله صوب المفوضية قبل أن يفترقا. في حدود الساعة الحادية عشرة، سيتصل بالبيت ليذكر ابنته بضرورة إطعام جدها في حدود الساعة الثانية عشرة لالتزامه بموعد أدوية صارم، وبعد أكثر من ساعة سيعاود الاتصال بالبيت ليلقي بقنبلة لم يصدقها أي أحد بالمنزل. ”راني قتلت ثلاثة ديال البوليس يا أسماء”. بعد الاستفهام عن صدق الكلام، ستقفل الزوجة الهاتف في وجه زوجها، لأنها لم تكن مستعدة لمزحة “باسلة” في هذا الصباح، قبل أن تتدخل ابنتها لتأكيد هذا المعنى، وخاطبت والدتها التي كانت في حيرة “حطي التليفون راه ماشي يتملغ، راه ما يقتل حتى فروج”. بعد أن يئس من نقل الخبر لزوجته، سيتصل حسن البلوطي بأصهاره بمدن مختلفة من القنيطرة إلى فاس، ثم تازةوتطوان كان يريد إخبار الجميع، وفجأة سيتحول منزله إلى قبلة لناقلي الخبر، لتدخل الزوجة في حالة ذهول لم تستفق منه إلا بعد ساعات. «هو ضحية كذلك»، عبارة تختم بها الزوجة روايتها المغلقة بتصميم كبير على فضح اللعبة التي وصفتها بالقذرة. كانت تنتظر أن يتحسن وضع الأسرة بعد اشتغال الابن ودخوله سلك الشرطة وكأنها كانت تطبق المقولة النمطية «حرفت بوك لا يغلبوك»، لكنها تنهار حين تتذكر الزوج لتعود إلى نوبتها في صراخ حزين «كل شي ضاع.. كل شي ضاع».