اكتست حمة إيكس-لي-بان حلة خاصة في الأسبوع الرابع من شهر غشت 1955 بتوارد الوفود المغربية عليها، وامتلاء فندق «سبلانديدي اكسيلسيور» بالمشاركين في المؤتمر. كان المستجمون في هذه الحمة الصغيرة الجميلة يحملقون بكثير من حب الاستطلاع في هؤلاء المتلفعين بالجلابيب والسلاهيم، بعضهم معمم وبعضهم مطربش وكثير منهم ببذلات غربية أنيقة، وكلهم يتخاطبون بلغة أجنبية. انتشروا في جنبات الفندق وكانوا ينزلون إلى المدينة، وقد وضعت السلطات الفرنسية قوات أمن احتياطية. كانوا سبعا وثلاثين شخصية مغربية استدعتهم الحكومة الفرنسية للتشاور وتبادل الرأي، وجاء معم أتباع كثيرون. كان من بين المشاركين البارزين مبارك البكاي، ومن حزب الاستقلال الحاج عمر بن عبد الجليل وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة، وكان الأمين العام للحزب أحمد بلافريج مقيما بجنيف يتابع مؤتمر ايكس - لي-بان عن كثب. ومن حزب الشورى والاستقلال: عبد القادر بن جلون وعبد الهادي بوطالب ومحمد الشرقاوي وأحمد بن سودة. وكان أمين عام حزب الشورى المرحوم محمد بن حسن الوزاني يتابع المؤتمر من لوزان في سويسرا. بالاضافة إلى هؤلاء وأولئك كان ممثلو مختلف فئات الرأي العام بالمغرب، مغاربة وفرنسيين، من بين الحاضرين. اجتمعت اللجنة الوزارية الفرنسية المكلفة بمتابعة المشكلة المغربية بالشخصيات المدعوة واستمعت إلى كثير منهم بالتناوب، فمثل أمامها الحاج محمد المقري في البداية، وجاء كلامه مطابقا لما عهد فيه من خضوع، وما عرف عنه من رصد اتجاه الرياح لمسايرتها. صرح بأنه لا يتمسك بابن عرفة، ذاكرا أن هذا الأخير لا يتمتع بأدنى شعبية وأن الذي يشجعه على البقاء هو عبد الرحمن الحجوي رئيس تشريفاته. وقال إن في إمكان الهيئة المخزنية أن تجتمع وتقرر خلع ابن عرفة إذا أصر على البقاء!.. وتقدم الحجوي فدافع بحرارة عن ابن عرفة. واستمع الوزراء الخمسة ببالغ الانتباه إلى التهامي الكلاوي الذي اختصر تدخله في بضع جمل متقطعة. إذا لم يكن في مثل فصاحة سحبان وائل! قال: «يجب على فرنسا أن تعلن رسميا عدم عودة محمد بن يوسف وأبنائه إلى العرش. وبذلك تتعهد باحترام كلمتها، إننا في بلادنا لا نتهاون في إعطاء الكلمة. بهذا الشرط، وهذا الشرط لا غير أنفذ تعليمات فرنسا. ولو أن إصلاحات اتخذت بعد ذهاب ابن يوسف، لما وصلت الحالة إلى ما هي عليه اليوم». فاه الكلاوي بهذه الكلمات وجلس. وتابعت اللجنة الوزارية عملها باالاستماع الى محمد الناصري مندوب الصدر الأعظم في الشؤون الإدارية وجعفر الناصري مندوب الصدر الأعظلم في الأشغال العمومية. كان محمد الناصري من الموظفين السامين في عهد الحماية، وتعرض لغارة فدائية جرح أثناءها. ومما قاله أمام اللجنة: «لقد انحنيت أمام القرار (قرار خلع محمد الخامس). لكن كان يجب تطبيق الإصلاحات فورا، محمد الخامس أصبح يعتبر بطلا و شهيدا بعد نفيه، يجب أن يذهب ابن عرفة. ينبغي أن يسوى كل شيء بالاتفاق مع فرنسا: إن كثيرا من أعدائنا يأتون من المنطقة الإسبانية». وجاء دور عبد القادر بن جلون المتحدث باسم حزب الشورى والاستقلال، فصرح أمام اللجنة الوزارية: «إن ابن يوسف أصبح رمزا للسيادة المغربية. و تعلقنا بشصخه إنما هو تعبير عن احتجاجنا على انتهاك هذه السيادة. وحزب الشورى والاستقلال يردد صدى المقاومة المغربية التي تناضل في سبيل السيادة والاستقلال. والسلطان من هذه الزاوية هو الحارس الأمين للدولة المغربية ورمزها». وتناول الكلمة بعد ذلك الكثير من الأعيان والباشوات والقياد الذين كانوا في الغالب يرددون ما لقن لهم. ثم جاء دور الحاج الفاطمي بنسليمان الذي كان مرشحا لتشكيل الحكومة بعد تنصيب مجلس العرش. أعلن أمام اللجنة الوزارية: «أن الحكومة الحالية عبارة عن أشخاص صوريين، وأن الحاجة تمس الى تشكيل اتحاد وطني باتفاق مسبق مع ابن يوسف الذي ليس له نية اعتلاء العرش من جديد«. ثم أثنى الحاج الفاطمي على جيليبير كرانفال الذي قال عنه «لم يتفق لمقيم عام أن أحرز على ثقة المغاربة منذ عهد ليوطي مثلما أحرز عليها كرانفال». ثم جاء دور عبد الرحيم بوعبيد الذي تحدث باسم حزب الاستقلال أمام لجنة المتابعة الوزارية. وبما قاله: «إن ابن يوسف يمثل المغرب في أعين الشباب والنساء. وهو ما لاتستطيعون تغييرها ايها السادة. وحزب الاستقلال لن يقبل مبدأ قيام مجلس للعرش إلا إذا وافق عليه محمد بن سوسف. على أن المسألة الأساسية لاتكمن في هذا الأمر، المسألة الأساسية هي العلاقات المغربية - الفرنسية. إن الحماية الفرنسية جعلتنا نتصل بالعالم بعد أربعة عشر قرنا من العزلة الشديدة حتى بالنسبة للأقطار الإسلامية. لقد ترسخت شخصيتنا بفضل فرنسا. ونصبو الى ازدهارها بفضل فرنسا. كما نريد أن نصبح دولة حرة ذات سيادة بمساعدة فرنسا. ونحن مستعدون أن نحترم المراحل التي تقتضيها الظروف. إن الاستقلال لايأتي اليوم أو غدا. إن غاية نضالنا هي الاستقلال. فإذا لم يكن بوسع فرنسا أن تمنحه لنا، فلا أقل من أن تعترف بتوجه المغرب نحو هذا الاستقلال». ذكر بيير جولي في كتابه الذي أخذنا عنه هذه المقتطفات وسنأخذ عنه بعض ما دار في مؤتمر ايكس - لي - بان «أن هذا الكلام المتزن أصاب الوتر الحساس في نفس أنطوان بيني، فاستولى على مشاعره بعدما كان يرفض مقابلة السفاحين وأعداء فرنسا». وقد أجاب انطوان بيني بوعبيد قائلا: «فرنسا ليس لها من هدف سوى الهدف الذي ذكرتم. فينبغي تحديد الوسائل وتثبيت المراحل». ثم جاء دور عبد الحي الكتاني فقال أمام اللجنة الوزارية: «أننا في منعطف تاريخي، لقد اكتسحت جيوش جرارة برلينالشرقية. فاذا ضيعت فرنسا شمال إفريقيا، فلن يبقى لها من سبيل سوى الارتماء في أحضان الروسيين. إن بيطان أسدى خدمة لهتلير بحماية شمال افريقيا واستدعاء الامريكيين للمجيء إليها. على أمريكا أن تبدأ بتحرير السود قبل أن تعطي دروسا لفرنسا. إنها كالشيطان حين قدم الثمرة المحرمة لحواء. حين قدم السيد جولي الى المغرب كان كمن اختبأ في صندوق. إنه لم ينصت إلا للحمير. وكرانفال تصرف تصرف نيرون الذي اأشعل النار في روما. سياسة كرانفال خربت كل شيء وزرعت الرعب في البلاد. لم نعد نستطيع أنا والكلاوي، أن نذهب للاقامة العامة. نتردد في حمل وسام جوقة الشرف (الفرنسي). في الماضي حين كنت أذهب لوجدة، كان يقتبلي ثلاثون ألف شخص، والآن يرافقني ثلاثون شرطيا. الوطنية نشأت في روسيا، وأينعت في القاهرة، وازدهرت في تطوان. القتلة يتسللون إلى المغرب، وقد هجموا على ابني. ولم يجر أي بحث، مع أن أصحاب الهجوم معروفون. إن الروسيين يشعلون النار حول القواعد الأمريكية. أساطير ابن يوسف ثانوية. يجب قبل كل شيء وضع حد الإرهاب، إن واد زم مؤامرة شبيهة بمؤامرة الريخستاغ. وأصحاب هذه المؤامرة معروفون. فعليكم أن تبعدوهم». واستمعت اللجنة بعد ذلك لجاك داهان الذي كان هو والدكتور بنزاكين يمثلان اليهود المغاربة في المؤتمر. ثم استمعت لممثلي الجالية الفرنسية بالمغرب وخاصة لرئيس المعمرين أوكوتوربي الذي أعلن: «إن ستة آلاف معمر منبتون في بادية المغرب بدون حماية.. ولا يوجد فرنسي واحد يريد رجوع محمد ابن يوسف، مع أن ابن عرفة لم يعد له أي اعتبار». ثم طلب أن يولى جنرال منصب الإقامة، وأن يمسك الأمور بيد من حديد. ثم يمكن بعد ذلك تأسيس مجلس للعرش وحكومة تمثيلية. وتحدث أمام اللجنة كذلك محمد الزغاري وأحمد بركاش وممثل للعلماء. أثار تدخل هذا الأخير غضب أنطوان بيني، فرد عليه قائلا : «كيف تطلبون اليوم عودة محمد بن يوسف مع أنكم أنتم الذين خلعتموه؟..» فرد ممثل العلماء مبتسما: «نعم، لكن الذين طلبوا منا خلعه كانوا يحملون البنادق على أكتافهم». هذه أمثلة من التدخلات التي تمت أمام لجنة المتابعة الوزارية. لكن أهم شيء هو ما كان يدور في أروقة المؤتمر بين اللجنة الوزارية ومساعديها من جهة، وبين الشخصيات المشاركة من جهة أخرى. وقد قام مبارك البكاي بدور مهم، وكان له صوت مسموع، وساعدت تدخلاته وتدخلات ممثلي الأحزاب الوطنية بالخصوص على زعزعة آراء الوزراء الفرنسيين الذين كانت لهم نظرة خاطئة على القضية المغربية ومشكلة العرش. وكان لتدخلات عملاء الإدارة الفرنسية نتيجة عكسية. وبقدر ما اقتنع الجميع - حتى الخصوم - بمكانة محمد الخامس وباستحالة القيام بتسوية للمشكلة القائمة مهما كان نوعها بدون موافقته، بقدر ما ازدادوا يقينا بعدمية ابن عرفة. ولاحت في الأفق مبادىء عامة تصلح أساسا لتسوية المشكلة، وتتلخص في النقاط الآتية: ذهاب ابن عرفة، تأسيس مجلس للعرش، تأسيس حكومة اتحاد وطني للتسيير والتفاوض مع فرنسا، نيل ضمان محمد الخامس لهذا المشروع وعودته الى فرنسا في دائرة التسوية العامة للقضية المغربية. من كتاب «محمد الخامس الملك البطل» لقاسم الزهيري