هذا التحقيق/ البورتريه، كنت قد أنجزته سنة 2001، أسابيع قليلة بعد رحيل صاحبه، إبن الصحراء المغربية الكبير، محمد فيضول الدرهم. وهو من الرجال الأصلاء الذين لم يسعوا قط إلى النجومية، حتى وأدواره في مقاومة الإستعمار الإسباني، ثم دوره الحاسم في عودة الصحراء إلى بلدها المغرب، هي أدوار حاسمة. ولعل السؤال الذي يطرح، هنا من باب استعادة ذكرى نموذج للوطنية في الصحراء، هو: من منا يعرف محمد فيضول الدرهم؟! سؤال صعب أن نجزم بجواب قطعي عنه .. لكن، المؤكد أن كثبان الصحراء المغربية تعرفه، ويعرفه نخيلها وتعرفه حيطان العيون العتيقة ومسالك العروق في وهاد الصحراء، وتعرفه زنازن الاعتقال زمن الاستعمار الاسباني .. لم يكن الرجل عاديا .. عاش كبيرا، ومات - رغم الامتحانات الصعبة التي عبرها وحيدا - كبيرا .. لم يسع قط الى دائرة الضوء، وكان بطبع الرجال البسطاء، الأصلاء، مؤمنا بأنه إنما يقوم بواجبه ازاء اسم عظيم عنده، هو «الوطن»، وانتهى الأمر .. وحين تسابق الكثيرون لادعاء ماليس لهم من شرف، اكتفى هو براحة الضمير، وكان يضع رأسه مطمئنا على وسادة نومه كل مساء، وينام هنيا، هو المؤمن بأن ثمة عدلا آخر يرقبه ولاينساه، اسمه التاريخ والأثر الطيب الذي تركه في الناس .. هذا الرجل الذي تغري سيرته بالكتابة، رحل الى ربه، وأحيت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير أربعينيته في 2001، حيث ألقيت كلمات وفاء في حقه من قبل رفاق الأمس في المقاومة وجيش التحرير: عبد الرحمان اليوسفي، محمد بنسعيد آيت يدر، إدريس بن بوبكر، لحسن أباكا، شبيهنا ماء العينين، لفضل مربيه ربو، والمندوب السامي الدكتور مصطفى الكثيري وأفراد عائلته حسن الدرهم (ابن أخيه والبرلماني الإتحادي اليوم عن الصحراء وعضو المكتب السياسي للإتحاد الإشتراكي) وأحمد محمد فيضول الدرهم (ابنه) .. ولابد من الإشارة إلى أن جلالة الملك محمد السادس، كان قد خصص للراحل طائرة حملت نعشه الى العيون، هناك حيث دفن في موكب، كان أشبه باستفتاء للمحبة .. إذ فجأة وخرجت المدينة كلها وراء نعش الرجل الذي أفضاله على الآلاف من أبناء قبائل الصحراء .. محمد فيضول الدرهم، من الرجال الذين لايمكن لأي قلم أن يخجل من الكتابة عنهم، هو الذي رأى النورآيت باعمران سنة 1917، بآيت يوب بقبائل آيت الخمس في بيت علم، كما يؤكد ابنه أحمد محمد فيضول الدرهم .. ثم هاجر الى طرفاية سنة 1922، متشبعا بغنى حياة والده، الذي كان تاجرا ومن أعضاء الطريقة الناصرية قبل أن يتعرف بالشيخ ماء العينين في السمارة، حيث أصبح والده تابعا للطريقة القادرية المحسنة .. ثم اتجه الى المنطقة التي ستبنى فيها مدينة العيون سنة 1934، ولقد نزل بها صحبة الشيخ محمد الغظف والد الشيخ لاراباص، الذي عين كنائب للخليفة السلطاني .. وكان من الأوائل الذين بنوا دورا في مدينة العيون ومحلات تجارية .. وبحكم تنقلاته التجارية سيتعرف في أواخر الثلاثينات على عدد من الوطنيين، وكان من بين الذين ارتبط بهم المرحوم عبد السلام بنونة، مثلما قوى علاقاته مع الأستاذ عبد الخالق الطريس في الشمال .. وكان يحمل معه جرائد تطوان والشمال الى الصحراء المغربية .. هناك التقى أحمد ولد العيدة، موريتاني الأصل، درس بتطوان، وكذا العبادلة ولد الشيخ لغظف ماء العينين الذي درس عند الإسبان، ويشكل هذا الثنائي المتعلم مع ثلاثي محمد الدرهم وأحمد الدرهم وعلي بوعيدة المشتغلين بالتجارة، النواة الأولى للعمل السياسي الوطني في الصحراء المغربية، وكان ذلك في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات .. وكانوا مرتبطين أساسا، في البداية بحركتي الطريس وبنونة وكذا المكي الناصري. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتأسيس حزب الاستقلال، إثر تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، التقحوا بالحركة الوطنية عن طريق العلامة الحاج عمر المتوكل الساحلي، وكذا والد المقاوم محمد بنسعيد آيت ايدر .. وظل عملهم سريا، حتى تم تأسيس فرع للحزب سنة 1955 بالعيون .. فيما كان العمل المسلح سريا، ومنظما بالتنسيق الكامل مع الحاج المتوكل الساحلي .. وحين وصل محمد بنسعيد آيت يدر ومولاي عبد السلام الجبلي الى مدينة سيدي إيفني، بصفتهم قادة لجيش التحرير، ارتبطوا بهم .. وبعد أن انتقل مولاي عبد السلام الى الداخلة مع مجموعة من أعضاء جيش التحرير، أصبحت تجارة محمد فيضول ممتدة من العيون إلى سيدي ايفني شمالا، ثم إلى موريتانيا جنوبا، ثم الى جزر لاص بالماص غربا، وهو الذي كلفته المقاومة بالاتصال بالجنرال أمزيان، قائد الجزر والصحراء التابع لإسبانيا، لأجل التغاضي عن نقل السلاح والتزود به، لأجل مقاومة الاستعمار الفرنسي، لكن هذا الأخير رفض .. بعد حصول المغرب على الاستقلال، فتحت مقرات حزب الاستقلال في كامل الصحراء المغربية، وكانت صور محمد الخامس ومحمد الزرقطوني وعلال بن عبد الله وجمال عبد الناصر معلقة في المحلات التجارية وفي الدور، دون أن تتدخل السلطات الاسبانية لمنع ذلك .. وهذا واحد من أكبر الأدلة على مغربية الصحراء، حيث المقاومة كانت تكاملية وتنسيقية بين الشمال والجنوب، وكان بيت محمد فيضول الدرهم بالعيون هو مقر قيادة جيش التحرير بالصحراء المغربية. لقد بقي ذلك الخماسي الصحراوي موحدا حتى سنة 1959، هم الذين عينوا بمجلس آيت الأربعين الذي كونته قيادة جيش التحرير، وكان يضم عناصر من جميع قبائل الصحراء، والذي كانت ترجع إليه القيادة - يقول المقاوم إدريس بن بوبكر في شهادته - في جميع القضايا ذات الطابع السياسي، بل وتستشيره في قضايا ذات صبغة عسكرية محضة .. ومما تؤكده ذات الشهادة، الخدمات التي وفرها فيضول الدرهم من خلال شركة الدرهم - بوعيدة لتسهيل مهام جيش التحرير سواء فيما يتعلق بتنقل وحداته عبر الصحراء، عن طريق تقديم شاحنات في ملكية الشركة، أو فيما يتعلق بقضايا التموين .. وكان لهم الدور الحاسم والكبير في النتائج الباهرة للهجوم على مدينة «أطار» بمشاركة عناصر موريتانية مثل فال ولد عمير وحرمة ولدبابانا ومحمد ولد جدو والشيخ أحمادو .. إذن، فقد بقي ذلك الخماسي الصحراوي، موحدا حتى سنة 1959، أي سنة حصول انشقاق داخل حزب الاستقلال، حيث اعتزل العبادلة العمل السياسي، أما أحمد ولد العيدة، فقد التحق برفاقه الموريتانيين، فيما ارتبط محمد فيضول الدرهم وشقيقه أحمد الدرهم وعلي بوعيدة بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة الشهيد المهدي بنبركة، علما بأن محمد فيضول قد اعتقل من أكتوبر 1957 حتى أبريل 1959 لدوره البارز ضمن صفوف جيش التحرير بالصحراء المغربية، وبالتحديد في مدينة العيون، حيث اعقتل بتهمة المسؤولية الكبرى عن كل أعمال جيش التحرير بالصحراء، رفقة عدد من رفاقه، وحكم عليه بالإعدام وكان الإسبان من باب اذلاله يرغمونه على القيام بأعمال شاقة رفقة عدد من السجناء على مقربة من بيته ومن أبنائه الصغار، مما كان يؤلمه غاية الألم، قبل أن ينقل الى فويرتي بنتورا (جزيرة من جزر الكناري) .. ولقد صدر في حقه الحكم بالإعدام رفقة المقاوم فرجي ولد الرزمة، بمحكمة تينيريفي قرب لاص بالماص، وكانت محكمة عسكرية .. بعد صعود حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1959، كان جيش التحرير المغربي يتوفر على أسرى إسبان بمعارك العيون، الدشيرة، البلاية، بوجدور والعركوب قرب الداخلة، فتمت المقايضة بهم بمبادرة من المغفور له محمد الخامس، بعد أن قدم إليه اللائحة المقاوم الفقيه البصري، وأطلق سراحهم من سجن تلك الجزيرة وكان ضمنهم محمد فيضول الدرهم، فرجي ولد الرزمة والشيخ لارباص، ولقد نشر الخبر مرفوقا بصورة فيضول في جريدة «التحرير» .. وفيما ارتبط شقيقه أحمد الدرهم وأحمد بوعيدة تنظيميا بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عاد هو إلى الدارالبيضاء ومنها اتجه الى تافيلالت، لأنه ممنوع من دخول الصحراء، وأشرف على تجارته بمدينة ارفود وارتبط مجددا مع جيش التحرير بالمغرب الشرقي، ثم عاد الى الدارالبيضاء في أواسط 1960، ومنها اتجه الى مدريد، حيث حصل بعد محاولات عدة على رخصة للسماح له بدخول الصحراء لمباشرة أعماله التجارية، ولن يحصل على بطاقة مواطن صحراوي إلا سنة 1972، حين بدأت اسبانيا تخطط لإحصاء 1974، ولقد كبرت تجارته منذ بداية الستينات بين لاص بالماص والعيون، في مجالي التصدير والاستيراد، وكان من بين معاملاته التجارية استيراد الشاي من الصين ثم بيعه في اسبانيا والصحراء المغربية .. لكن، وطنيته المتأصلة لم تمنعه من أن يظل على اتصال وثيق بجسم الحركة الوطنية في المغرب، في كافة تفاصيله، وكانت له صلات وثيقة مع عناصر وطنية داخل جهاز الدولة، هي التي ستجعله (أي تلك الصلات) يلعب دورا حاسما، لم يعرف قط، في استعادة المغرب لصحرائه، وبالتحديد ابتداء من سنة 1974. بنسودة يصل متخفيا في لباس امرأة الى «لاص بالماص» لمقابلة الدرهم وخطري هنا ستحكي الزوجة عن تفاصيل غاية في الأهمية، لم يكشف عنها من قبل قط .. كانت المخابرات الجزائرية، وأساسا المخابرات العسكرية تخطط لاستدراج رئيس الجماعة الصحراوية المرحوم الحاج خطري ولد سيدي سعيد الجماني، هو الذي كان يتوفر على وثائق جد هامة ترتبط بواقع الصحراء المغربية، وبتفاصيل قبائلها، خاصة بعد إعلان المغرب رسميا قراره باسترجاع صحرائه، عبر المسيرة السلمية، المعلن عنها في خطاب 16 أكتوبر بمراكش الذي ألقاه المغفور له الحسن الثاني رحمه الله، ولأن بيت محمد فيضول الدرهم بلاص بالماص، كان محج الكثير من الشخصيات الصحراوية، بل وكان صديقا لأهم وزيرين في الحكومة الموريتانية آنذاك، هما وزير الداخلية أحمد ولد محمد صالح، ووزير الخارجية حمدي ولد مكناس .. فقد كان مكان نزول الحاج خطري دائما .. كان المنزل من ثلاثة طوابق، وحدث أن احتضنت مدريد في أواخر أكتوبر مؤتمرا حول الصحراء، حضره الحاج خطري ومحمد فيضول الدرهم وشقيقه أحمد الدرهم، ثم عادوا الى لاص بالماص، فعمل محمد الدرهم وشقيقه على إقناع رئيس الجماعة الصحراوية بالبقاء معهم لأيام قبل العودة الى العيون .. كان شهر نونبر قد أطل، اقنعوه بالبقاء في البيت عوضا عن الفندق وحرصوا على أن لايتصل به أحد، مهما كان، وبقوا معه أيام الأربعاء حتى الأحد من الأسبوع الأول من شهر نونبر 1975، وحين جاء خوان كارلوس الى العيون، كان خطري غائبا .. غادر محمد فيضول الدرهم إلى مدريد، وبقي شقيقه أحمد رفقة خطري متخفيين بالبيت، وكانت الزوجة تقول لكل زائر إنهم غادورا الى السينغال لأعمال تجارية طارئة .. وكانت صلة وصل، عبر الهاتف، مع متحدث من القصر الملكي بمراكش .. وبعد أن أدى الثلاثة القسم على القرآن للوفاء للمغرب ولتاريخ الكفاح الوطني ضمن جيش التحرير بالصحراء المغربية، حدث في صبيحة يوم السبت، أن وصل مبعوث ملكي خاص، بشكل متخف هو السيد أحمد بنسودة (مستشار جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بعد ذلك)، رفقة السيد العربي الفحصي، حيث جرى نقاش لم تعرف الزوجة تفاصيله قط .. وقبل بزوغ الفجر غادر المبعوث الملكي ومعه خطة الجواب والاتفاق، بعد أداء القسم مجددا على القرآن .. بعد مغادرة بنسودة للبيت، غادر مباشرة محمد فيضول وشقيقه وخطري الجماني في لباس متخف إلى مطار لاص بالماص ومنه الى مدريد بجوازات سفرهم العادية، وكانت المسيرة قد انطلقت بيوم أو يومين .. هناك في العاصمة الاسبانية سيستقبلهم الأستاذ عبد اللطيف الفيلالي، الذي كان سفيرا للمغرب بمدريد، وسيسلمهم جوازات سفر بأسماء مستعارة، حيث استقلوا أول طائرة إلى باريس، ومنها غادروا في طائرة مغربية، في رحلة عادية، إلى مراكش، ومن مراكش نقلوا جميعهم الى أكادير، حيث استقبلهم المغفور له الحسن الثاني، ذلك الاستقبال المشهور بالسلهام، حيث أهدى الملك الراحل سلهامه الى رئيس الجماعة الصحراوية ووراءه مباشرة كان يقف الوطني المرحوم محمد فيضول الدرهم وشقيقه أحمد ، ثم الوطني الآخر، أحمد بوعيدة .. بعد أن أدى واجبه الوطني بإيمان، عاد المرحوم محمد فيضول الدرهم الى أعماله وحياته العادية، غير مبال بتهديدات الاغتيال التي كانت تصله من جبهة البوليزاريو والتي أحرقت محلاته التجارية بالعيون أياما قليلة بعد نجاح المسيرة .. وبقي الرجل عفيفا، بضمير مرتاح، لم يتاجر قط بمبادئه ولا زايد برصيده الوطني النضالي حتى لقي ربه ..