يعد الطيب منشد من المناضلين الذين رافقوا العديد من قادة الاتحاد، واولهم الشهيد عمر بن جلون، الذي يكشف لنا الطيب عنه جوانب خفية، انسانية وسياسية ونقابية. كما أنه يعود بنا الى تفاصيل أخرى تمس الحياة النقابية في بلادنا وكل مخاضاتها، باعتباره شاهدا من الرعيل الأول، ومناضلا ومعاصرا للمخاضات التي عرفتها الساحة الاجتماعية. هناك اشياء كثيرة أخرى، ومواقف عديدة تكشفها ذاكرة الطيب لأول مرة.. كما أن المقرر التنظيمي قرر إعمال الاقتراع السري لفرز قيادة الحزب التي ستخرج عن المؤتمر السادس بدل لجنة الترشيحات التي كان يعمل بها في كل المؤتمرات السابقة، وخلفية هذا الاقتراح تعود إلى الخلافات المتعددة التي كان يعرفها الحزب، حيث بدا أن التوافق أصبح غير ممكن خصوصا، وأن كل فريق كان يعتقد أن الحسم لا محالة لصالحه، كما أن هذا المبدأ في قراءتي الشخصية سيكون وراء الانسحابات من المؤتمر والمقاطعات التي أعلن عنها، ذلك أنه مع اقتراب موعد المؤتمر كانت موازين القوى تتضح أكثر. هذا ما يمكن أن يقال عن الإعداد الأدبي، أما الإعداد البشري، فقد تطلب جهودا مضنية واستغرق مدة طويلة، فأمام منع القطاعات من تنظيم لقاءات وطنية بقرار غير معلن من المكتب السياسي، وأمام ظاهرة التشرذم التي أصبحت تعرفها الأٍقاليم والفروع الحزبية، فإن عملية حث المناضلين والمناضلات على التوافق لإنجاح المؤتمر كمدخل لإنقاذ الحزب من وضع (الرهينة) التي كان عليها، هذه العملية كانت صعبة وشاقة تحمل عبأها العديد من المناضلات والمناضلين، لكن شبه الإجماع على قيادة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي جعلت إمكانية التوافق في العديد من الأقاليم ممكنة. إن تبني الإقتراع السري لأول مرة، وفي الظروف التي كان يعرفها الحزب جعلتنا نعتقد أنه بدون توافق الأقاليم على المرشحين للجنة الإدارية، فإن النتائج قد تكون كارثية، لذلك فإن مجموعة المناضلين والمناضلات الذين تحملوا مسؤولية إيجاد توافقات في الأقاليم رفعوا شعارا لهذه المرحلة بالذات هو شعار «الديمقراطية المؤطرة»، وكانوا يعنون بها خلق توافقات يؤكدها أو يزكيها الاقتراع السري فيما بعد، وسأعود للحديث عن هذا الموضوع مع اقتراب موعد المؤتمر. بدأت الحياة الحزبية تعرف أحداثا متسارعة، فالمجاهد الفقيه البصري رحمه الله، وبعد عودته إلى أرض الوطن، زار العديد من المدن، والتقى بالكثير من المناضلين والمناضلات، داخل المقرات وخارجها، وبعدما كان يؤكد على حضوره في المؤتمر السادس، هذا التأكيد الذي دعمته بعض التصريحات لمسؤولين من الشبيبة الاتحادية، وحزبيين من خارجها، من كونهم سيدخلون المجاهد الفقيه البصري محمولا على الأكتاف إلى داخل المؤتمر، لكن الرجل، وبعد عملية جس النبض هنا و هناك، أعلن عدم حضور المؤتمر، مرشحا في نفس الوقت أحد قادة الشبيبة الاتحادية لمهمة الكتابة الأولى. أما الآخرون، وبعد أن كان يعتقد أنهم يشكلون مجموعة واحدة، تبين فيما بعد أنهم أكثر من ذلك، فقد أعلن المرحوم محمد الحبيب الفرقاني رحمه الله، عن مقاطعته للمؤتمر ملتحقا بالفقيه، ومدعما لمواقف بعض أعضاء اللجنة المركزية الذين أعلنوا مقاطعتهم للمؤتمر دون ربط موقفهم بموقف الفقيه والفرقاني رحمهما الله، أو نفيه، أما الباقي فأنا أعتقد أن قرار المقاطعة كان متخذا من طرفهم، لكن الإعلان عنه تأخر حتى لا يقال أنهم تابعون للفقيه، أو أنهم اتخذوا القرار بتأثير منه. وظلوا ينتظرون أي حدث ليتخذوه سببا لإعلان قرار اتخذ من قبل، وسيكون تشكيل لجنة التنظيم داخل المؤتمر السبب المبحوث عنه ليعلن قرار الإنسحاب. كانت أيام انعقاد المؤتمر السادس أياما مليئة بالشائعات المحرقة للأعصاب، شائعات قد يكون مصدرها من لم يحضروا المؤتمر، وقد يكون وراءها أشخاص من داخل المؤتمر ، وقد يكون وراءها من يتربص بالطرفين بغية إضعافهم. وإذا كانت هذه الشائعات قد صاحبت كل أيام المؤتمر، فإن أقواها كان في اليوم الأول وقبل انعقاد الجلسة الافتتاحية بالتحديد، هناك لحظات لا تنسى أحداثها بالسهولة، ومن هذه اللحظات بالنسبة إلي تلك الساعات المحرقة التي عشتها والعديد من المناضلين والمناضلات قبل الافتتاح، فبينما نحن نتلقى شائعات حول تأجيل المؤتمر، وعن صفقات وهمية، جاء خبر يؤكد أن بعض أعضاء المكتب السياسي غادروا مقر المؤتمر للاتصال ببعض الأطرف المنسحبة، وأنهم بعد رجوعهم بدون نتيجة، قيل أنهم اقترحوا تأجيل المؤتمر. انتشر الخبر وسط المؤتمرين والمؤتمرات، وأحدث ردة فعل قوية، خلال هذه اللحظات توجهت إلى القاعة التي عادة ما يجلس بها أعضاء المكتب السياسي، لم أعد أتذكر كل من كان حاضرا منهم، لكنني أتذكر بعضهم، وهم الإخوة محمد الحبابي، محمد منصور، الحبيب الشرقاوي، فتح الله ولعلو، محمد جسوس، قلت لهم مصير الحزب اليوم بيد ممثلي التنظيمات الحزبية، ولن يسمح لأحد بالعبث بإرادة الاتحاديين والاتحاديات.. الذي أجاب هو الأخ الحبيب الشرقاوي الذي قال علينا جميعا أن نعمل على إنجاح الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التي ستكون مؤشرا لما سيتلوها، اتفقت معه على هذا الرأي، وغادرت القاعة. وبينما دبت حركة داخل المؤتمر مصدرها العناصر المؤطرة للمؤتمرين والمؤتمرات من كل الأقاليم والقطاعات للقيام بالتعبئة لإنجاح الجلسة الافتتاحية، جاءني من يخبرني أن ولدي (المهدي) قد تعرض لاعتداء، توجهت إلى عين المكان، لأجده متكئا على الأخ عبد الاله التوزاني، أحد مؤتمري الرباط والدم يسيل من أنفه وفمه، سألت المحيطين به، وكانوا كثرا، أين وقع الاعتداء ومن طرف من؟ كانت الإجابة أن الاعتداء وقع أمام مدخل ساحة مكتب الصرف بعيدا عن الازدحام، حيث كان يقف منفردا وأمامه العديد من رجال الأمن، أما من قام بالاعتداء، فقر الاتفاق على أوصاف أحدهما الذي يقطن بمدينة الجديدة، أما الشخص الثاني فلم يعرفه أحد. حُمِل المهدي الى قاعة التمريض، وعندما لم يتوقف النزيف بالإضافة إلى الغيبوبة نقل الى المستشفى تحت إشراف الدكتور عبد الواحد العمراوي الذي كان مصحوبا بالأخ عبد اللطيف موقن. وبعد الفحص بالسكانير، غادر المهدي المستشفى، وغادر المؤتمر كذلك، وبعد حوالي 10 أيام غادر المغرب في اتجاه فرنسا ليتابع الفحوصات ثم العلاج، وقد كلفه ذلك التوقف عن الدراسة لمدة ثلاث سنوات، كما يؤكد ذلك ملفه الصحي بالجامعة. فهمت مغزى الاعتداء واستوعبت أهدافه، فهو اعتداء مدبر كان الهدف منه وضعي بعيدا عما كان يجري من محاولات التأجيل المؤتمر، كانت لحظات صعبة علي. لا كأب ولكن كمناضل يؤمن بالخلاف ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، ولم أكن أتصور أن الخلاف قد يدفع بالبعض الى حد محاولة ارتكاب جريمة قتل. مر بذهني ما تعرض له المناضلون أيام زمن الرصاص بدار المقري، في درب مولاي الشريف، في معتقل تازمامارت الرهيب وفي غيرها من المراكز السرية والمعروفة، لكن الصراع هنا كان بين خصوم، من كان يملك القوة والجاه منهم، كان يعتقد أن الآخر خصم يريد إزاحته والحلول مكانه، فأعطى لنفسه الحق في استعمال كل الوسائل ضدا على القانونيين السماوي والوضعي، وتساءلت لو أن أحد أطراف صراع الإخوة - الخصوم توفر على قوة وجاه من جلدوا المناضلين بدرب مولاي الشريف وغيره، وأطلقوا الرصاص على المتظاهرين في سنة 1965، 1981 و 1990 ، كيف سيتعاملون مع الآخر. لقد استوعبت أهداف الحادث، ولذلك عزمت على ألا أعزل نفسي عن العشرات، بل المئات من مناضلي ومناضلات الحزب الذين عقدوا العزم على تخليص حزبهم من وضع الرهينة الذي عاشه في السنوات الأخيرة، لذلك تجاهلت الرسالة، وتغافلت ولو مؤقتا، مضاعفة وآثار الاعتداء على ابني، ولم أخرج الحادث للمؤتمر أو خارجه. نجحت الجلسة الافتتاحية من حيث نوعية الحضور من ضيوف أجانب ومغاربة ومضمون الكلمات التي ألقيت وحماس المناضلات والمناضلين الذي كان يهز جوانب القاعة، وبعدها انعقدت الجلسة العامة الأولى، حيث قدم خلالها المجاهد السي عبد الرحمان تقرير المكتب السياسي، ورغم نجاح الجلسة الافتتاحية ونجاح الجلسة الأولى، فالشائعات ظلت نشيطة تعكر أجواء المؤتمر وتلقي بالغموض على مصيره، فقد انتقلت من القول بتأجيل المؤتمر برمته الى القول بأن المؤتمر لا ينبغي أن يخرج بالأجهزة لأن ذلك يعني سحب هذه الشائعات والقطع مع المنسحبين والمقاطعين والغاضبين.. ولذلك ظل المناضلون داخل المؤتمر، ورغم انطلاق الأشغال في حالة يقظة وحذر. ومع حالة الترقب والحذر هاته، فإن المؤتمرين والمؤتمرات خصوا السي عبد الرحمان بحفاوة خاصة سواء داخل الجلسات أو في ممرات فضاء المؤتمر التي كان يمر منها، وهذا الإجماع حول شخص السي عبد الرحمان كان يوسع دائرة التطلع إلى إنهاء المؤتمر بكل أشغاله.