كادت الرحلة الهولندية تنتهي دون أن تتاح لي فرصة اللقاء بالعديد من المغاربة، ليس لقلتهم، فهم منتشرون في مختلف أزقة وأحياء مدينة أمستردام، بل لضيق الوقت، الذي كنا نقضي السواد الأعظم منه داخل معهد «غوته» لحضور ورشات عمل «الأكاديمية الأورومتوسطية للصحافيين الشباب»، التي كان موضوعها يتمحور حول مسألة الهجرة ودور الإعلام في صناعة الخبر بدل تكرير الأفكار الجاهزة. لكن عندما أتذكر الفرصتين الوحيدتين اللتين التقيت فيهما بعض المغاربة، إلا وينتابني شعور بالأسى والغضب، فقذ كان ذلك اللقاءان، رغم أنهما عابران، يحملان في طياتهما أشياء كثيرة عن الصورة التي يروج لها أولئك الأشخاص عن بلدهم وعن مواطني هذا البلد. اللقاء الأول كان في قلب أمستردام، وبالضبط قرب قصر الملكة. مكان لا مكان فيه لمظاهر الفقر والحاجة، الكل منشغل بالتمتع بروعة المكان تحت أضواء «ساحة السد» و«ساحة الآثار». وكنت أتبادل أطراف الحديث مع زملاء صحتفيين من لبنان وإيطاليا وهنغاريا، عندما قاطعنا فجأة شاب مغربي، رث الثياب، يتكلم بإنجليزية ركيكة لكنه يصر أن يوضح من خلالها على أنه مهاجر مغربي، جاء بحثا عن عمل ولم يجده، ولم يجد سوى استجداء العون من عابري الساحة. التفت إلى رفاقي، وقالوا: «هذا الشخص من بلد، تحدث إليه». هيأته البدنية لا تدل على عدم قدرته على العمل، سألته عن سبب لجوئه إلى التسول، فقال إنه حديث العهد بهذا البلد، حيث جاء قبل شهرين، لكنه عجز عن العثور عن عمل، فاختار مجبرا طريق التسول. اللقاء الثاني، ببعض سفراء المملكة من أفراد جاليتها كان عند محطة القطار المركزية، كانت مجموعتنا التي تتألف من أكثر من عشرين صحفيا عائدة من بروكسيل، ثلاث ساعات بعد منتصف الليل، ولشدة البرد والتعب، قررنا أن نستقل سيارات أجرة كانت مرابضة أمام المحطة، لا حظ الجميع أن أصحاب سيارات الأجرة كانوا مغاربة، من خلال ملامحهم وطريقة كلامهم، فكان الاختيار علي أن أطلب منهم نقلنا إلى مقرات سكننا. تحدثت بالدارجة المغربية إلى ثلاثة من أولئك السائقين عن وجهتنا وعن عددنا، فتبادلوا حديثا بينهم باللهجة الريفية، واتفقوا على أنهم سينقلوننا بحوالي ثمانية عشر أورو لكل مجموعة من ثلاثة أشخاص. كان الثمن باهضا للغاية لأنه يمثل ثلاثة أضعاف الثمن العادي. أخبرت زملائي بالتسعيرة المقترحة، فعبروا عن غضبهم واستيائهم، وقرر الجميع تحمل البرد والتعب والسير على الأقدام، بدلا من دفع تسعيرة نفخ فيها الجشع والطمع. على امتداد الطريق الفاصلة بين المحطة ومقرات إقامتنا، ظل الجميع واجما، ربما بسبب تعب يوم طويل قضيناه في رحاب البرلمان الأوربي، وربما هو الاستياء من تصرف سائقي سيارات الأجرة المغاربة. وفي دواخلي كنت متأكدا أن الاحتمال الأخير هو السبب في لجم أفواه المجموعة. في ذلك الحين، كنت أحاول أن أقنع نفسي بأن ما حدث ليس استثناء، بل هو أمر جاري به العمل بين سائقي سيارات الأجرة في المدينة، لكن تجارب أخرى مع سائقين من جنسيات أخرى كذبت ما كنت أحاول أن أقنع به نفسي. كما أنني تساءلت عن دور أفراد الجالية المغربية في نبذ أو تكريس الأفكار الجاهزة، التي ارتسمت في أذهان الهولنديين، والتي يرسخها البعض بسلوكاتهم المهينة والتي يغيب عنها أي حس وطني أو غيرة عن سمعة البلد.