إذن ما جرى ويجري ليس مجرد خلاف بين فتح ومعها السلطة من جانب وحماس من جانب آخر، حتى الصورة التي راجت حول كون الخلاف يدور بين مشروع إسلامي تقوده حركة حماس ومشروع وطني تقوده حركة فتح ، لا تعكس الواقع تماما أو لا تعبر عن كل المشهد، بل كانت تسويقا للخلاف يخفي حقيقة المخطط، ويضفي شرعية ما على كل طرف، حيث يسمح لحماس بأن تزعم بأنها تمثل المشروع الإسلامي الجهادي، ويسمح لحركة فتح والسلطة للزعم بأنهما يمثلان المشروع الوطني . ما جرى ويجري هو تسوية سياسية خفية شارك فيها بشكل مباشر أو غير مباشر - بعلم ومشاركة من البعض وبجهل من آخرين - مَن يُفترض أنهم أعداء: قيادات من فتح والمنظمة والسلطة، وقيادات من حماس، وإسرائيل وواشنطن، ولعبت انظمة عربية دور العراب وخصوصا مصر التي تكفلت بفتح والسلطة، وقطر التي تكفلت بحركة حماس. كانت هذه التسوية في حالة كمون، ولكن محل تفكير في مراكز القرار الإسرائيلي منذ توقيع اتفاقات أوسلو، وانتقلت من التفكير إلى التنفيذ عندما فشلت حوارات كامب ديفيد واندلعت الانتفاضة عام 2000 ، وباتت تطبخ على نار هادئة عام 2002 عندما تمت محاصرة الرئيس أبو عمار بالمقاطعة، وأخيرا تم تخريجها تحت عناوين مخادعة، كالقول بالحسم العسكري بالنسبة لحماس والإنقلاب بالنسبة لحركة فتح، فيما الحقيقة انه لم يكن لا حسما ولا إنقلابا بل تسوية أمر واقع غير معلنة . حتى آخر لحظة كان يراودنا الأمل بأن تكون رؤيتنا للأمر غير صحيحة، وأن المصلحة الوطنية والانحياز للوطن وللشعب سيتغلبا على أي حسابات ضيقة عند الأحزاب السياسية، ولكن للأسف فإن القوى الدافعة نحو الانقسام والمستفيدة منه أقوى من قوى المصالحة والمصلحة الوطنية، كانت سيرورة الأحداث وموازين القوى تخدم هذا التوجه. كان كل يوم يمر على حماس وهي في السلطة يبعدها عن نهج المقاومة وعن المصالحة الوطنية، حيث كان عليها أن تختار بين السلطة والمقاومة، وبين السلطة والمصالحة، وقد خيرتها تل أبيب وواشنطن بين الأمرين اكثر من مرة وبطرق مباشرة وغير مباشرة، ويبدو أنها اختارت السلطة. كان كل يوم يمر على الانقسام يُنتج ويؤسس في قطاع غزة ولدى حماس في الخارج نخب جديدة ومكاسب وارتباطات وواقع يجعل التراجع أكثر صعوبة، أيضا كان كل يوم يمر على السلطة في الضفة إلا ويجعلها أكثر ضعفا وبالتالي أكثر إرتهانا للشروط الأمريكية والإسرائيلية وأكثر مسايرة لهما على طاولة المفاوضات، وأكثر توافقا مع واقع الإنقسام، ولم يكن تعثر مفاوضات التسوية ببعيد عن الموضوع، بل كان مقصودة ومدروسا من طرفي معادلة المفاوضات لفسح المجال لتسوية الانقسام للتتوطد، حتى حركة فتح وبعد مؤتمرها السادس أفرزت قيادات متنفذة في اللجنة المركزية معنية باستمرار الانقسام . وعليه، لم تكن كل الذرائع التي تقول بها فتح وحركة حماس لتبرير عدم نجاح الحوارات أو للتهرب من المصالحة أو لتبرير الانقسام وما ترتب عليه من تداعيات في الضفة وغزة ...، لم تكن هذه الذرائع صحيحة والقائلون بها كانوا يدركون أنهم يكذبون على الشعب ،فلا الانفلات الامني والاغتيالات والاعتقالات قبل (الانقلاب) كانت سببا فيما حدث، ولا الانتخابات ونتائجها كانت سببا فيما جرى، بل كانت جزءا من المخطط، كما لم يكن التنسيق الامني لحكومة دكتور فياض مع إسرائيل، ولا تدخل الاطراف الخارجية ولا الاعتقالات المتبادلة ولا تقرير جولدستون الخ ،السبب في إعاقة المصالحة، هذه تداعيات لمواقف وسياسات كانت معدة مسبقة، وكان لا بد لهذه التداعيات أن تحدث، وبالتالي فهذه نتائج وليست سببا. لقد لعبت كل الأطراف المشاركة برضاها أو عجزا وقهرا، دورها بإتقان لخداع الشعب وتمرير التسوية القائمة (تسوية الانقسام) ،وإسرائيل العقل المدبر والداعم لوجستيا للانقسام تراقب وتوجه الأمور لتستمر حالة الانقسام إن لم يكن إلى ما لا نهاية فعلى الاقل لتوظف هذا الإنقسام لحين إستكمال مخططاتها الاستيطانية والتهويدية في الضفة والقدس ولتعيق مسار السلام لأطول فترة ممكنة، كما أن واشنطن معنية باستمرار حالة الإنقسام، لأن مصالحها تتلاقى مع المصلحة الإسرائيلية، ولأنها لا تجد ضغوطا جادة من العرب والمسلمين عليها، بل كل مسايرة وخضوع، والموقف الامريكي الاخير الاخير أكد ذلك، فما أن لاحت فرص لمجرد التوقيع على الورقة المصرية للمصالحة حتى طالبت واشنطن بضرورة أن تؤسس هذه المصالحة على الاعتراف بشروط الرباعية، فيما لم تطلب من حماس في ظل الانقسام لا الاعتراف بشروط الرباعية ولا الاعتراف بإسرائيل، بل كانت الوفود الامريكية تتوافد على غزة وتقابل مسؤولين في حماس بالإضافة إلى اللقاءات الخارجية . ليس بالضرورة أن تكون الاطراف الفلسطينية والعربية تمارس الخيانة الوطنية والقومية، فهي لجأت للمشاركة بهذا المخطط - التسوية غير المعلنة أو تسوية الانقسام - أو السكوت عنها، عندما استشعرت صعوبة نجاح المشروع الوطني وصعوبة تطبيق حتى الاتفاقات الموقعة، وبالتالي لجأ كل طرف للحصول على أكبر قدر من المغانم قبل أن يغرق المركب وذوي النوايا الحسنة أملوا أن يؤدي تصرفهم لمنع مزيد من تآكل الحقوق الفلسطينية، ولكن هذه الأطراف كان من الممكن أن تستدرك الأمر باكرا ،بأن لا توظف الدول العربية والإسلامية القضية الفلسطينية لخدمة اجندة سياسية خاصة بها، وان لا تعزز حالة الإنقسام خدمة لهذه الأجندة، وأن تقوم الفصائل الفلسطينية بتشكيل قيادة وحدة وطنية والتوافق على خيار واحد موحد :إما المقاومة بكل أشكالها أو التسوية السياسية على اسس صحيحية، ولكنها للأسف فضلت الأنظمة مصالحها مع واشنطن وتل أبيب، كل منها بمبرراته الخاصة، فيما انساقت الفصائل لتغليب مصلحتها الحزبية الضيقة . والنتيجة أن إسرائيل هي المستفيد الوحيد راهنا.