كان المغاربة يطلقون عبارة الدخول في الصحة على كل الحشريين والفضوليين الذين يحشرون أنوفهم فيما لا يعنيهم، فيسمعون ما لايرضيهم متوجا بهذه العبارة:«إيوا دخول الصحة هذا». الآن خرجت هذه العبارة عن كل رمزيتها لتتعرى من كل لبس أو لباس استعاري، وتنتصب مطلقة الوضوح وكاملة المعنى الحرفي. إن ثمة فعلا من يدخل في صحتنا العقلية والنفسية والبدنية، ويعمل فينا معاول هدمه وإمراضه في كل ثانية وأناء الليل وأطراف النهار. فكيف دخل النابحون في صحتنا؟! قد يبدأ الأمر بتخشيب جهة من الوجه أو مباشرة بالفالح. أو بجزء من الفخذ، ثم التنمل لهذا الجزء أو ذاك من الأطراف أو الظهر، ثم التلاعب بالكهرباء في البدن، لدرجة إطلاقه لحركات لا إرادية قد تتطور إلى ما يشبه حالات الصرع، ثم العبث بالأوردة والأوعية الدموية التي تظهر بجانب العنق بشكل جلي، كل ذلك، بعد أن يكونوا قد تمركزوا في الدماغ يلعبون بكهربائه، كما يشاؤون، ليمروا إلى تجفيف منابع الدمع في المقل، ومجاري المخاط، وكل ما في الجسد من ماء ودماء. هكذا تجد أن المخ الذي كنت تعتقد إنه مخك، والدماغ الذي كان دماغك، قد رفع عنه القلم، وتحول إلى بيت نار محتل، فيه من الشهيق والنهيق والزفير كما في جهنم، والشقيقة تسكن الصدغين النابضين أبدا، والضغط الدموي يرتفع أو يهبط كالنول أو كالمكوك، والنمل يدب في كهوف المسام. وقد يبدأ الأمر برفع حرارة كل البدن، حتى يتبلل البدن من فرط التعرق، ثم يشرع النابحون في العبث بالحرارة والبرودة، يجمدون هذه المنطقة قرب الكتف، أو تلك قرب الكتف الآخر، يفتحون في ظهرك الأبواب، ويجعلون الريح يدمدم في أذنيه، وانفك في لهيب الفيافي أبدا يخاصمه الزكام. ولأنهم متمركزون في الدماغ، يتحكمون في كل الجهاز العصبي، يحولون كل حرف قرأته إلى مسمار صدئ جارح لخلايا الدماغ، ويحولونك إلى فأر تجارب لساديتهم الحيوانية. هكذا يقطعون مثلا شهيتك أو حاجتك للأكل، أو يسرعون حاجتك للتدخين، فَتَسْتَفَّ ثلاث علب في وقت قياسي، أو يقطعون الكهرباء عن منطقة في المخ - وكهرباء الدماغ - نور الله حتى تفشل في عملية حسابية قد ينجح فيها تلميذ في القسم الأول الابتدائي أو يحرمونك من النوم ليال متتاليات بعد أن يشعلوا منطقة أخرى، وهم في كل وقت يمررون مكانسهم لمسح الذاكرة وجعلك تنسى كل ما يعنيك إلا الألم والتعذيب الذي يعنيهم، فهم المحاربون وأنت الحرب والمحارب وساحة الوغى. وهم في الحروب النفسية الباردة والساخنة وما بينهما كر دائم متواصل ومتلاطم لا ينقطع ولا يفتر، سلاحهم هدير مكرور يجتر ويجتر ويكرر ويستعاد، حتى إن حاولت أن تنطق خشيت أن يكون اللسان لسانك والكلام كلامهم، من فرط ما يملون إملاء ويملوؤن فراغا. وهو إملاء من كثرة فراغه ينشد التركيع والتطويع، بل قد يذهبون بعيدا ليملون عليك أحلامك وكوابيسك التي هي أبدا كوابيسهم. ولهم في الحرب على عقلك تعطيل دائم من كثرة نفاياتهم الصوتية السائلة دائما وشوشة ووسوسة وهسهسة لا تنقطع، مثل آلات للزعيق المتواصل والمواظب والمثابر وحين تعلم أن الساهرين على ظلمك بكرة وأصيلا وطنجة والكويرة، أنت و أمثالك من تؤدي أجورهم من ضرائبك، يصعد إحساسك بالظلم فوق توبقال حتى يبصر كل بحر الظلمات وبحر الظلم. وكل ذلك فقط كي يقولوا لك أمرا وحيدا يتيما: أن الأرض أرض المخزن، وأنت فوق أرض المخزن لا شيء.