سأل كمال جواد مندوب «جون أفريك» الأخوين المهدي وعبد الرحيم رحمهما الله... هل ترون في التجمع السياسي الجديد خطراً كبيراً... وهل أصبح السيد اكديرة خصماً لكم؟ نحن أناس جديون على رأس هيئة جدية وغير وارد عندنا أن يكون خصمنا السياسي رجلا لا كيان له ولا يمثل أي شيء كالسيد اكديرة. فلا يجب أن نفسح المجال للغموض، إذ أن خصمنا الحقيقي هو الذي يرفض الاضطلاع بالمهمة التي هي مهمته الطبيعية، أي مهمة الحكم (بفتح الكاف)، حيث يتعين على الحكم أن يضع نفسه فوق الأحزاب، ولكن الذي نشاهده الآن هو أن الحكم تحول الى رئيس كتلة من المصالح ونعني بذلك الملك. إن اكديرة ليس إلا ظله وليس له وجود سياسي خاص إلا الوجود الذي يجعل منه المعبر الأمين عن وجهات نظر مولاه. فلو أن الملك قرر غداً الانفصال عنه، فلاشك أنه سيعود الى ما كان عليه، أي لاشيء. ومن السهل أن نلاحظ أن الملك عندما أراد الانفصال عن القوات الشعبية، فإن النتيجة لم تكن مثل ذلك. وقد بقيت الحركة الوطنية نشيطة حية بعد هذا الانفصال فكديرة ليس إلا أداة لسياسة معينة ينهجها القصر. وليست الأداة هي التي تهمنا، بل تهمنا هذه السياسة المعينة. { وهذه السياسة ما هي في نظركم؟ > إنها تبدو واضحة تقريباً وهي تقوم على متابعة العمل الذي يقوم به القصر منذ الاستقلال، أي تفتيت الحركة الوطنية الى مجموعة أحزاب، بحيث لا يكون مواجها لخصم قوي. وان الجبهة التي أنشئت مؤخراً تهدف بالطبع إلى جمع عدد من الرجال المرتبطين بالحكم. وهذا الجمع يمكن أن يتم إما بوعود تبذل بمنح مناصب أو ترقيات يسهل على مستغلي الحكم أن يحققوها، وإما بواسطة التهديد المحض. وبالجملة فهذا النظام الذي يدعي، في الدستور الذي منحه لنفسه، بأنه يمنع قيام الحزب الواحد، هو في الحقيقة نظام يحاول إقامة حزبه الواحد أي حزب الادارة و الشرطة إلخ... وقد ينجح في ذلك وقد لا ينجح، لست أدري وكل ما أعلم هو أنه إذا ما نجح في ذلك، فستكون تلك بداية نظام فاشستي حقيقي... { ألا ترون أن الملك لا يأمل فقط استمرار نظام تعدد الأحزاب الحالي، بل انه يجد ذلك في صالحه؟ > كيفما كان الأمر، فإن الحركة الوطنية قد وقعت ضحية انقلاب رجعي نموذجي في أبريل 1960. وقد دفع ولي العهد الملك محمد الخامس الى أن يجعلنا نغادر الحكومة على غير رغبة منا، بينما كان هناك برنامج يطبق، وكانت هناك التزامات واضحة قد اتخذها الطرفان واحترمناها من جانبنا دائماً. أما معارضة حكومة عبد الله ابراهيم، فكانت تتمثل في ولي العهد الذي كان يسير تلك المعارضة داخل الحكومة، وكان الضغط الذي مارسه على الملك الراحل محمد الخامس ضغطاً قوياً بما فيه الكفاية ولم يكن ولي العهد يثق بنا، وكان يقول لوالده بأننا نريد إعادة النظر في مبدأ الملكية. «ملك الفرنسيين» { وهل كان لعدم ثقته ما يبرره؟ > لنر... يجب ألا تنسوا أننا نحن الذين أعدنا في الواقع للملكية سمعتها في هذه البلاد. وتذكروا بأنه منذ معاهدة الحماية، أي منذ 30 مارس 1912، فقدت الملكية كل اعتبار في أعين الشعب. ولقد أعادت الحركة الوطنية منذ 1943 للملكية مشروعيتها التي كانت فقدتها، ثم قمنا بنشاط لا يفتر حتى جعلنا الملك، ليس شرعيا فقط، بل وشعبيا كذلك. ولقد أوصلنا ذكره الى البيوت والمداشر. وفي سنة 1955 كان منديس فرانس، ثم ادكارفور يقولان لنا، وهما يحاولان معنا أن نتنازل عن شرطنا الأولي للمفاوضة، شرط تحرير الملك: «ولكن لماذا تلحون في إعادة الملك إلى العرش؟» وهنا أيضاً ساندنا الملكية. ولكننا فعلنا كل ذلك على شرط كان واضحاً في أذهان الجميع: هو أن ننشىء لأنفسنا ملكية دستورية يكون فيها الملك رمزاً لاستمرار المؤسسات وتمارس فيها السلطة حكومة مسؤولة. ولكننا في الواقع قد وصلنا الى شيء آخر. فقد منح الدستور وترك للملك السلطة الحقيقية كلها. وقد يؤدي ذلك الى وضع أسوأ. { ألا تزالون تدافعون عن الملكية وعن المبدأ الملكي؟ > إن المهم بالنسبة إلينا في الوقت الحاضر ليس الشكل الذي تتخذه المؤسسات، بل مضمونها. وأريد أن أقول بأن المسألة ليست معرفة ما إذا كان رئيس الدولة ملكاً أو رئيساً وليس لهذا سوى أهمية ثانوية. والأهم من ذلك هو إخراج البلاد من التخلف، ونحن نؤيد جميع الذين هم مستعدون للقيام بهذه المهمة. إلا أنه يجب أن تتوفر الرغبة الصادقة في القيام بهذه المهمة لا أن تنشأ مؤسسات عتيقة، تصاحبها مظاهر أبهة تكلف غاليا، وارتشاء على جميع المستويات. ورئيس دولة هو في نفس الوقت رئيس حكومة، يتصرف تصرف المالك في أملاكه. إننا يجب أن نتفق على هذا: ان المغرب ليس ملكا لأحد. ولكننا لا نستطيع أن نكون ملكيين أكثر من الملك، وإذا كان هناك من يحارب الملكية، فهو الملك نفسه، أليس يعد تخريباً للملكية أن توضع الدولة بين أيدي أناس لا يتوفرون على أي سند شعبي؟ أليس من تخريب الملكية أن تعرض للسخرية من جراء القضية الموريطانية مثلا؟ أليس من تخريب الملكية أن يتسلم الملك السلطة مباشرة، أي يعرض نفسه للانتقاد؟ ثم أليس من تخريب الملكية أن تتركز السلطة بين أيدي رجل واحد يكون الوزراء لديه مجرد أدوات التنفيذ، وأن يفسح المجال للامسؤولية في جميع مستويات الدولة؟ ثم انه يكفي أن نستعرض نتائج السنوات الثلاث الأخيرة لنتبين إلى أي حد أفسد الملك نظامه بنفسه. التصميم الخماسي ينتهي بانخفاض الدخل الفردي وتخفيض قيمة العملة بنسبة 30% { ما هي هذه النتائج في نظركم؟ > لقد أراد الملك في أبريل سنة 1960 أن يتسلم مسؤوليات الحكم مباشرة، فلماذا تسلم هذه المسؤوليات؟ لقد تسلمها بحجة أن نظام الأحزاب ليس نظاماً مستقراً، وأن الحكومة لم تكن قوية بما فيه الكفاية إلخ... حسن ولقد كان هذا منذ ثلاث سنوات، ثلاث سنوات من الحكم الفردي، من الحكم المستقر، من الحكم القوي على حد التعريفات التي أعطاها الحكم لنفسه. أن من الطبيعي بعد هذه الفترة من الزمان أن نقوم بالحسابات. ولنتذكر في الحقيقة بأن هذه الحكومة لم يكن عليها أن تتحمل الرجات المباشرة التي نجمت عن الاستقلال. وفي الوقت الذي تسلم فيه الملك السلطة كانت قد مرت فترة انتقالية أولى تحملها رجال اخرون غيره. وباختصار، فقد تسلم السلطة في ظروف حسنة. وأن المقياس المطلق الذي يجب أن نتبناه هو ما يلي: بأي شيء ساهمت الحكومة طيلة هذه السنوات الثلاث في إخراج البلاد من التخلف؟ فعندما غادرنا الحكم كنا قد تركنا تصميماً خماسياً استغرق التفكير فيه ووضعه زمناً طويلا وتسلمه الذين خلفونا لحسابهم الخاص فغيروا منه نقطاً هامة. ولقد دخلنا في السنة الرابعة من تطبيق هذا التصميم. ويمكن أن نقول منذ الآن بأن هذا التصميم قد فشل فشلا تاماً ومطلقاً ونهائياً. لنبحث بعض المظاهر الهامة: فقد كان التصميم ينص على زيادة الاستهلاك بنسبة 3% وزيادة الإنتاج بنسبة 6% وهي أهداف متواضعة، ولكننا بالوسائل التي كنا نفكر في استعمالها، كنا عمليا متأكدين على الأقل من الوصول الى تلك الأهداف. وكان لابد من تحقيق قدر معين من التوظيفات للوصول إلى هذه النتائج. ولكن، أين نحن من هذا البرنامج؟ لقد كان يجب أن توظف في سنة 1962، 125 ملياراً حسبما كان متوقعا؟ً في التصميم. ولم تحقق الحكومة منها إلا 80 ملياراً. وفي سنة 1963، كان يجب توظيف 150 مليارا، ومن المؤكد تقريبا أنه لم يتحقق من ذلك إلا 90 ملياراً. وليس هناك فقط جمود في الإنتاج، ولكن باعتبار التزايد الديمغرافي، هناك انخفاض في مستوى المعيشة. ومنذ ثلاث سنوات، كان يقدر هذا المستوى ب 4% ومن المؤكد تقريباً أن الدخل الفردي سينخفض في سنة 1960 بنسبة 9% أي خلال الفترة التي ينتهي فيها التصميم الخماسي. فيا لها من نتيجة رائعة، ما رأيكم؟ وإلى جانب هذا، تتضخم النفقات باستمرار، وتتخذ مقاييس لا تناسب بينها وبين إمكانياتنا. وقد ارتفعت ميزانية التسيير وحدها إلى 200 مليار فرنك، بخسارة سنوية قدرها 40 ملياراً. فكيف يعالج ذلك؟ إنه يعالج بكل بساطة بزيادة إصدار العملة وستشهد الشهور القادمة تخفيضاً في قيمة العمل قد يصل 30% فإذا ما دفعت فرنسا، فقد يتأخر هذا التخفيض لستة أشهر أخرى، وذلك ما يؤدي إليه عدم التنسيق، والفوضى الادارية. الرشوة تصبح وكأنها إحدى أسس الدولة { هل أنتم متأكدون من أن التصميم لم يكن ليصادف نفس المصير المؤلم لو أنكم بقيتم في الحكم؟ > إن ما توقعناه في التصميم كان متناسباً مع وسائلنا، ولكن بشرط واحد هو نزاهة المسؤولين. إلا أن الرشوة قد تمركزت الآن وكأنها إحدى أسس الدولة. واسألوا رجال المال الدوليين، إن عندهم قائمة بأسماء الأقطار التي يجب أن ينص بالنسبة إليها فصل «البقشيش» من بين لائحة الأرباح والخسائر. إن المغرب قبل اليوم، لم يكن ضمن هذه القائمة، أما اليوم، فإننا نخجل أن نقول إنه موجود ضمنها، وفي مكان ممتاز. وقد أصبح معروفاً اليوم، لدى جميع الأوساط المالية أنه للحصول على صفقة تجارية بالمغرب، فلابد من دفع الثمن. دفع الثمن للمديرين، وبعض الأسر الكبرى على جميع المستويات. فهل تظنون أن رجال الأعمال الأجانب، وقد يكونون من كبار النزهاء، سيدفعون ذلك من جيوبهم؟ إن اقتصاد البلاد هو الذي يؤدي الثمن. إن أي إجراء يتخذ منعزلا لا يمكن أن يكون حاسماً، فمجموعة ملتحمة متناسقة من الاجراءات، أي تصميم حقيقي للتنمية هو الذي يمكنه أن يعطي نتائج عامة. إنني أعلم أن هناك أناساً يكتفون بتلك الفلسفة الريبية التي كان ينادي بها مستعمرونا القدامى، والتي تقوم على القول: «فكروا، إنكم واهمون، إن هذه الأقطار فقيرة، وستبقى فقيرة إلى الأبد». إننا لسنا من هؤلاء. إننا من الذين يؤمنون بإمكانيات بلادنا. إن المغرب ليس بلداً فقيراً ولقد كنا نتوفر، ولانزال نتوفر، على جميع شروط انطلاقة طيبة. فهناك التجهيزات الأساسية الاستعمارية، وليس علينا أن ننطلق من الصفر. إن طريق الإقلاع معبدة، ولا يلزمنا إلا قوة العزيمة، والإحساس بالمصلحة العامة وأن نضع البنزين في الطائرة ونجعلها تنطلق. نهاية الظهور بمظهر الرجل المتطرف { هل الفريق الحاكم الآن لا يتوفر على قوة العزيمة هاته؟ > لقد أظهر هذا الفريق عما يستطيع. ولقد رأينا ما جرى في موضوع الاقتصاد، فلنلق نظرة على السياسة الخارجية. إن القضية الموريطانية بمثابة فشل ذريع. ولقد جعل منها الحسن الثاني حصان معركته وكان يقول: «موريطانيتي». وكنا قد نصحنا محمد الخامس بحزم بالعدول عن هذه السياسة، بإقرارنا منذ البدء باللجوء إلى الإرادة الشعبية، ولكن الحسن الثاني كان يريد إذ ذاك أن يظهر بمظهر الرجل المتطرف. وقد أنفق مئات الملايين لإرسال بعثات إلى جميع أقطار العالم لتشرح للحكومات الأجنبية بأن موريطانيا مغربية. وبعد ثلاث سنوات من «حكومة الفعالية»، سيكون مضطراً ليذهب فيصافح يد المختار ولد دادة. ونفس عدم التنسيق في موضوع التعريب، فقد بدأ الحديث عن تعريب عام للتعليم من باب الديماغوجية، ولكي يعاكس الملك اليسار الذي يؤيد حلولا مغايرة، فقد أنشأ مجلساً أعلى للتعليم، يتكون في أغلبيته من عناصر غير مختصة أو رجعية. ثم تغيرت السياسة فوجد الملك نفسه في وضع صعب مع مجلس التعليم الذي أنشأه بنفسه. وأنا أسمى ذلك عدم تنسيق... الحركة الوطنية ستدخل في مرحلة جديدة { إذا كنت قد فهمت جيداً، فمن الصعب أن نتصور اليوم حلا وسطا بينكم وبين النظام القائم؟ > هناك حل لايزال ممكنا. ولكنه يتطلب توفر عدة شروط. فأولا لا يمكن في الظروف الراهنة أن نشارك في الحكم، إلا على أساس تعاقد محدد واضح تحدد بموجبه سلطات كل من الطرفين، ويحدد برنامج العمل. فإذا كانت هناك موافقة على هذه النقاط، فعندها تصبح المشاركة في الحكم ممكنة. ويجب في الظروف الحالية التي هي ظروف الانتخابات أن تحترم قواعد اللعبة احتراماً كاملا، فإذا كان النظام مستعداً لاعتبارنا كحزب معارض في نظام ديمقراطي، فإن الانتخابات يجب أن تجرى بشكل طبيعي. ولكن هذا يتطلب ضمان حرية الاقتراع وصدق نتائجه. وهذه الضمانة لا يمكن أن تكون حقيقة إلا إذا ترأس جهاز تمثل فيه القوات الشعبية، مراقبة الانتخابات، وإلا إذا أشرف هذا الجهاز على المحافظة على النظام خلال تلك الانتخابات. والواقع أنه من غير المظنون ألا يوضع تنظيم الانتخابات ومراقبتها بين يدي رجال عازمين على القيام بأكبر قدر ممكن من الضغط على السكان، لانتزاع الأصوات التي تنقصهم. وإذا ما أصبحت الادارة أداة في يد حزب سياسي، فلن يعود هناك من ملجأ إلا المجابهة المباشرة التي تصبح أمراً متوقعاً جداً. وعندها لن يستطيع أحد أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور. إننا أمام هذه المحاولة، محاولة سيطرة الادارة على الشعب، سنكون مضطرين الى الدفاع عن أنفسنا، ولن نستطيع بعد ذلك أن نبقى كحزب شرعي. وستقلب الصفحة بالنسبة للحركة الوطنية التي ستدخل عندها في مرحلة جديدة من هذا الصراع. وسيرى الجميع أن الحرية التي نتمتع بها اليوم ليست في الحقيقة إلا حرية مؤقتة.