أكتب طفولتي الآن أم تكتبني ؟ أستعير من زمنها السحيق أم تستعير من زمني الراهن لأركض معها ثانية على صهوة اللغة العريقة ، وأعيد رسم حارة عتيقة مصطخبة في زمن فجرستيني بديع .. كيف بي وبأية يد ساحرأستطيع ان أسكب بحرطفولتي المتلاطم في حجم فنجان قهوة رمضانية .. من أين إذن أبدأ لحظة الكتابة عن الطفولة ؟ أمن المصباح الأحمرالصغيرالمسهد فوق مهدي وهو يحصي نوبات السعال الديكي التي كم مرة أفنتني وأعادتني إلى حلقة الولدان المخلدون في الضفة الأخرى من الجنة... هناك في مكناس حيث «الداراللي هناك » التي تتغنج بقلادة «القمرالأحمر» قد لملمتني يد أمي الرؤوم في قماط فجرالإستقلال في حارة كانت تتلمس أولى خطوات الحبوالمرتابة على عصرالحداثة .. لن أنسى قامة والدي المفتون برياضة كمال الأجسام .. المسكون بطي المسافات على دراجة السباق .. ولن أنسى هالة والدة معتكفة هناك في ركن ما بضريح مولاي إدريس الأكبر وعبق التاريخ يفوح من خمارها الأبيض الحايك واعتدادها بالجذورفي كل أحاديثها الأنيسة عند أزقة زرهون وأحجارها الصلدة وعرصاتها من رمان وتين وزيتون مبسوطة على حفافي قرية وليلي الرومانية . كنت أستيقظ ولم يتبين بعد الخيط الأبيض من الخيط الأسود .. أختلس الدراجة الهوائية الصغيرة المتكئة على السفرجلة في فناء الدار، وأذرع الدرب جيئة وذهابا ريثما يخرج جدي الذي كان مقدم جامع السويقة .. كنت أرافقه فجرا وأنا نشوانا بنورالدراجة الصغيرة الذي يضرب أمامي على الإسفلت .. متسمعا لابتهالات جدي خلفي وهو يغمغم وحيدا في صمت الحارة الصباحي وبيده السبحة ذات الحبات الخشبية.. أسند الدراجة الصغيرة على سارية باب الجامع وأمضي توا إلى الصهريج لأتوضأ ... طفولتي كانت طفولة تيه .. تيه لايتعب من تحت أقدام الأسوارالتي تطوق صهريج السواني العتيق .. لم تكن أسوارا للمدينة العاصمة فحسب بل كانت طريقي المنتصب الذي كنت أهتدي بها حين تضيع مني الطريق .. كانت أسوارها سبورات لخربشات عشقنا الأول حيث «الحب لايموت» ، ولكم رسمنا على صدرها « سهام كيوبيد» التي أدمت قلوب العاشقات وكم حفرنا فيها مواعيد للحبيبة مرموزة بإزميل الهيام العفيف تحت البوابة الأرجوانية العريضة ... كانت تلك الأسواربلا مراء أولى دروسنا في التاريخ ، فقد علمتنا كم كان السلطان يخشى على بهاء المدينةالمكناسية من الدخلاء أو من طمع الطامعين الإفرنجة ... الأسواربمعنى ما كانت قلادة مجدولة من معدن الطين المقدس علقها السلطان على جيد المدينة الحبيبة ... الطفولة من هذه النافذة هي المكان الذي إحتضنها وبسط لها ذخائرالصورواللغة .. فإن كانت مدينة تأتي لغة تمتح من ضجيجها وتنوعها وغناها وحركيتها اليومية ... وإن كانت قرية فلغة تمتح من إمتدادات تضاريس لاتعترف بالحدود ، لغة تتكلم عن نهاروليل لاتتلبسهما سحابة أدخنة المازوط... والآن .. كم يلزمني من الوقت كي أقتنص كل تلك الليالي الرمضانية في الذاكرة البعيدة لأوثق عمرا قد تكون سيرته مرجعا لاستكناه تجليات مغرب صاعد من تبعات الحماية .. حين أقول طفولتي عصية على القبض فلأنها طفولة تجاذباها تيارا العتاقة والحداثة .. بين سلطة جد لايفاوض في المرجعية ولا يساوم في لون سلهامه القديم أوكرامة نخلاته هناك في الواحة البعيدة ، وبين تجليات حارة تشرئب على مغريات الحداثة حيث سيارة الأوبيل الوحيدة في الحي لجارنا القايد علي تربض بباب دارنا ، وحيث الحاكي المانيتوفون الذي لايصمت إلا ليصدح من جديد صوت عبدالباسط عبدالصمد بآيات من الذكرالحكيم أوليطلق عمي سرب كمنجاته في سماوات أغنيات الأطلال او القمرالأحمرأوالجندول أو الداراللي هناك أوحبيب الجماهير، طفولتي قد تشبه شيئا ما ، كليالي سهرة السبت مع أم كلثوم على شاشة التلفازالوحيد في المقهى الذي كان يبتلع دخان الكيف وصخب جولات الكارتا ، ومعارك الضاما وعناد فارسها الذي يأبى أن يغادرالوادي ، وقد تشبه سينما المونديال في شارع الروامزيل أيام الآحاد وحكاية طائرة الفيلم التي إستجديت والدي على مسمع جمهورالمتفرجين أن يشتريها لي حين أكبر، وقد تشبه جلسات الأصيل في مقهى الحبول المطلة على جنائن وعرصات الوادي الباذخ ، ولعبة الغميضة في غابة الشباب... أحكي اليوم كل تلك الفتنة القديمة بكثيرمن المرارة ، وتزدحم في رأسي كل تلك الصورلأغرق في فوضاها الجميلة .. فوضى تعني بلا مراء عنوانا لذاكرة ثرية ، مشبعة ببهاء مدينة من ستينات القرن الماضي ، حين بنينا الآمال على سراب التحرروالتقدم والعدالة الإجتماعية والقومية العربية ... والآن ومن هذه الشرفة الفاسية المطلة على هامة جبال زلاغ ، تغات وزرهون ، ماذا بقي من ظل ذلك الطفل القادم من مغرب الستينات ، وماذا بقي من حب توزع بينهما ، بين مدينة كللتني بأغلى تيجان الهوية ووشمت على إهابي أجمل الأسماء ومدينة عالمة سقتني كأسا من ماء لغة الجواهر..بما تفيض به كأسي من قصائد وسرود وإفضاء ... هي إذن نعمة الإنتماء الذي يشبه في هويتي عملة لايعلوعليها أنفس المعادن درجة .. كل يوم أخالني أخرج من باب المنصوربساحة لهديم، لألج باب ساحة بوجلود .. أخرج من هناك وأحس بالإكتمال هنا حيث ذلك الطفل لم يكبرأبدا وكأنه مازال يرتع في مدينة واحدة تتمدد على جنة سايس .. مدينة أتمنى أن تسمى في القرن القادم : «مكناسفاس» - MEKNESFES.