لعل تجربة الكتابة تنطوي، بالأحرى، على علاقة بالحياة أي أن وسائل التعبير وأشكاله المختلفة تغدو، عند البعض، واسطة لتجْلية العلاقة التي تتكوّن بين الفرد والعالم، بينه وبين الآخرين، بينه وبين نفسه. من هنا يبدو نظريا، أن كل واحد منا هو كاتب بالقوة ومحتاج إلى التعبير عن هذه العلاقة، بشكل أو بآخر. يكون من الصعب أن نحدد العوامل التي تجعل من البعض كُتّابا أو فنانين دون الآخرين؛ فهذا مجال واسع للافتراض والتأويل، يضمّ أبحاثا عديدة عن الدوافع النفسية والذاتية الكامنة وراء اختيار المرء للتعبير الفني الإبداعي. لكننا نستطيع أن نتخيل الأمر بالنسبة لمنْ أثبتوا إصرارهم على الكتابة أو الإبداع الفني، فنستنتج ما قد يكون كامنا وراء الانجذاب إلى الكتابة، مستعينين بما يحكيه المبدع عن تجربته، أو ما يستخلصه المحللون من نصوصه ووقائع حياته... غير أن هذه العملية، في جميع الحالات، تبقى مندرجة ضمْن التخييل، أي المسلك الذي نتصور أن الكاتب قد سلكه لتمتين روابطه بالإبداع كوسيلة للتعبير عن ذاته وهواجسه وتجاربه. من هنا، قد لا يهمُّ ما نقوله عن جذور علاقتنا بالكتابة، لأن ما يعني القارئ هو النصوص المكتوبة بطبيعة الحال في شروط وسياقات معينة، إلا أنها تتعالى عن تلك الشروط لتخاطب وتتفاعل مع المتلقي، على رغم اختلاف شروطه عن المبدع.ومع ذلك، لعل في مثل هذه التأويلات التخييلية ما يُلقي الضوء على تجربة الكتابة المحتفظة دوْما بأسرارها الغامضة. أتذكّر مثلا، عندما أنبش ذاكرتي، أن هناك لحظة سعيدة ربطتْني بالكتابة عندما كانت أمي تطلب مني، وأنا تلميذ في الابتدائي، أن أكتب رسائل إلى خالي في فاس لأستفسره عن أحواله. كانت تلك التجربة تضعني أمام تحدّ صعب: أن أعوض اللقاء والصوت بالكلمات التي كان زادي منها قليل. فكنت أجتهد لأختزن كلمات جديدة لأتنافس مع زملائي داخل الفصل الدراسي ولأبهر أمي وأنا أقرأ عليها ما كتبته. هل هي الرغبة في امتلاك قدرة التعبير؟ أم الحرص على نيل إعجاب أمي التي كنتُ مفرط الحب لها؟ مهما يكن، يمكن أن أغامر بالقول: الطفولة مصدر أساس للكتابة ومعين يمنحنا الوهْمَ بالقدرة على مجابهة الزمن. سواء كانت طفولة سعيدة أو شقية فإنها تلوح كنجمة جاذبة في سماوات المخيلة لإعادة تملُّك المسار الحياتي والانتماء إلى هوية متعالية على تقلبات الوقت وزحمة التبدلات الذاتية والجماعية. تلوح الطفولة نقطة بدْء ومرفأ انطلاق نحو ما عشناه متلاحقا، مشتبكا،عصيا على الفهم. وأظن أن معظم الكُتاب يستحضرون هذه اللحظة الطفولية كلما ادلهمّتْ السحب وتراكضت الأيام خارج المألوف : يكون عليّ أن أستعيد الطفولة لأعثر على ما كان يزرع في نفسي التحدّي والإصرار على إثبات الذات، والاندهاش أمام الجديد، والتفاعل مع العالم في جسارة... من ثمّ تغدو زوّادة الطفولة ومخزوناتها علبة سريّة «سوداء»، نلجأ إليها للتأمل والفهم ونفْض غبار السفر عبر هذه الحياة الدنيا. غير أن علاقتنا بطفولتنا لا تظل ثابتة، واضحة، من دون خبايا وأوهام وإسقاطات .لأجل ذلك لا أتردد في أن أضع مقابل ذخيرة الطفولة عند الكاتب، تجربة َ الحياة وهو على مشارف الوعي يتطلع إلى امتلاك مقولات يصوغ بها رؤيته إلى العالم. التجربة الحياتية في شساعتها وتعقيداتها وتنوعها هي التي تخط ّ مصير الكاتب في وصفه إنسانا مثل الآخرين، وتضعه أمام اختيارات ليراهن على موضوعات معينة ويبلور شكلا فنيا ملائما، وينحت لغة تتحدّر من «العلبة السوداء» المنطوية على المكنون فيه. ولعلني أعتبر مرحلة النضج هي المدخل الطبيعي للتعرّف على تجربة الكتابة، لأن هذه المرحلة تستثمر خصوصية الطفولة وتحاور الحياة لتحدد علاقة « واعية « بالعالم. وهنا أستحضر تجربة دوستويفسكي(1821- 1881)، كما طرحها الفيلسوف المجري فولدينيي في كتابه «دوستويفسكي يقرأ هيجل في سيبريا ويُذرف الدموع بغزارة «، فهو يحكي أن الروائي الروسي عندما قرأ في منفاه ما كتبه هيجل عن التاريخ وفلسفته، أحس أن الفيلسوف يُسقط من حساب التاريخ الشعوب والأشخاص الذين لا يعتمدون على العقلانية والسياسة القائمة على المصالح الكبرى. أحس دوستويفسكي أن هيجل ينفيه هو وأمثاله إلى خارج التاريخ، فتولّد لديه وعي مضادّ جعله يكتب متحيّزا إلى أولئك الذين ظلوا خارج الحلبة الفلسفية التجريدية، فكتب ليدافع عن الجوانب الحياتية اللامرئية التي تصنع الفرد وتاريخه الخاص،ومشاعره العميقة... ولحظة الوعي المضادّ عند دوستويفسكي هي لحظة متحدرة من تجربة حياة، من آلام وتفاصيل ومعاينات جعلت الإنسان يأخذ عنده طابعا ملموسا يفتح الطريق إلى حرية الوجود. من هذا المنظور، تنتمي الكتابة إلى المعيش، إلى ما تستوعبه الذاكرة وينحفرُ في المسامّ واللاوعي، بعيدا من التعميمات التجريدية والتنظيرية. الانتماء إلى الحياة أولا، وإلى تجلياتها وأصواتها التي تكشف المخبوء وتضع الفرد أمام أسئلة تاريخه الخاص قبل أن تدفعه إلى مواجهة أسئلة المجتمع والكون. والكاتب المبدع يخوض مغامرة الكتابة من دون أن يستكين إلى ثوابت أو مقولات نهائية . صحيح أننا نكتب، فيما العالم يكبر من حولنا، أي أن من يكتب يمشي على بسيطة متحركة فلا يستطيع أن يطمئن إلى وصفة جاهزة، حتى ولو بعد طول تجربة. بالنسبة لي، أنا دائما أكتب محفوفا بالقلق والترقب واللايقين، لأن الكتابة تظل مفتوحة على المجهول، متطلبة لشكل خاص ولغة تنقل ما يتلبّد في ثنايا الذاكرة والوجدان. ولا شك أن الأمكنة تشكّل عمودا فقريا في النصوص، ولكنها ليست الأمكنة المشاع، المشتركة، بل تلك التي تحولها الكتابة عبر مصهرها، إلى فضاءات لها تضاريسها ونكهة تربطها بالعالم الخارجي، الكلي. وأظن أن مدنا ثلاث رعتْ حروفي وأسبلتْ عليها عبقا من طيبها وبخورها وأسرارها، وهي : فاس، الرباط، القاهرة. تكون الصدفة أول الأمر، وراء علاقتنا بالمدن والأمكنة، لكن الحوار الصامت والمشاهد والأصوات والألوان والروائح كلها تنبعث، عند الكتابة، لتحول الأمكنة إلى فضاء للنص، أي إلى مجال ملتحم بالتخييل والتذكر وإحياء اللحظات المتصرّمة. ترتبط فاس عندي، بالطفولة الأولى، بلغة الأمّ ،بمتاهات الأزقة الصاعدة الهابطة، بالعيون الدُّعْج تطلّ من وراء اللثام، وباللثغة المميزة تتلفظها نساء فتخاوات، ناعمات الملمس... واقترن انتقالي إلى الرباط ببداية ملامح المراهقة المبكرة، والتحاقي بمدرسة « حرة «، عصرية، تلقن دروسها بالعربية وتفتح أعيننا على واقع الاستعمار وأبجدية النضال والسياسة. كأنّ الرباط، من خلال البحر ودينامية الحركة الوطنية، هي بوّابة تناديني لاكتشاف ما وراء عالم الطفولة. وكان سفري إلى القاهرة وأنا في منتصف السادسة عشر من عمري، اجتيازا لعتبة طالما حلمتُ بها أثناء ما كنتُ أشاهد في سينما باب بوجلود بمدينة فاس، أفلاما مصرية يتصدرها زكي رستم ومحمد عبد الوهاب وفاتن حمامة واسمهان... تعرُّفي على القاهرة الساحرة آنذاك، وضعني في مرحلة مبكرة، أمام أسئلة الهوية واللغة الواحدة المتعددة، والانتماء إلى عالم أوسع بكثير من ما كنتُ أتصور . لذلك، لا أظن أن الرسائل التي كنتُ أكتبها بطلب من الأم العزيزة، وموضوعات الإنشاء داخل الفصل، والقصص القصيرة التي يكمن وراءها حبّ التميز والانتساب إلى عالم الأدباء، لا أظن أنها كانت تجسيدا للكتابة كما بدأت أعيها وأمارسها بعد أن قطعتُ أشواطا لا بأس بها على درب الحياة ... من ثمّ قد تكون بداية انتمائي إلى الكتابة إنما تعود إلى إدراكي لأهمية الذاكرة في نسْج القصة والرواية . كيف أكتب ذاكرتي؟ ذلك هو المنطلق الحقيقي، في ما يخيل إليّ، لمغامرتي في الكتابة الإبداعية، ذلك أنه سؤال يلخص جميع التفاصيل الفنية والموضوعاتية، في ترابطها مع أسئلة الوجود وامتلاك اللغة الخاصة وسط المعجم المشاع ن والقبض على الهوية التي لا تكفُّ عن الزوغان والانفلات والتواري داخل أرض بلقع تحمل بصمات المسخ والتزييف. كتابة الذاكرة لجوء إلى اللحظات الباقية وإلى فضاء الحرية والتخييل: إنها قبل كل شيء، كتابة تقوم على استيحاء واستحضار المنسيّ غير القابل للنسيان.