تتميز العلاقة بين العائلة الملكية والعائلة الرياضية بروابط قوية ومتجذرة منذ زمن بعيد.. في عهد الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، كما في عهد الملك محمد السادس، تمتع الرياضيون بكل الحظوة لدى القصر الملكي.. كثير منهم تحسنت وضعيتهم الاجتماعية بفضل تدخل ملكي، وعدد منهم جالس الملك، تحدث مع جلالته مباشرة، ومنهم من وُضع اسمه في خانة «أصدقاء الملك»، يتم استدعاؤهم في المناسبات الرسمية، وفي الجلسات الخاصة، ويشاركون الملك في نشاطاته الرياضية الترفيهية.. متى كان اللقاء الأول مع الملك؟ في أية مناسبة؟ ماهي التفاصيل؟ لو أتيحت للرياضي فرصة أخرى للقاء الملك، ماذا سيقول لجلالته ؟ ولد خالد رحيلو ونشأ في فرنسا، لم يكن يعرف عن بلده الأصلي المغرب سوى انتماءه وجذوره له، ولم يكن يتخيل أن يهجر في يوم من الأيام، فرنسا، ليعيش في بلد آخر لم يكن يهضم ثقافته ولا عاداته، لكن الأمور ستتغير في سنة 1997، وهو يتوصل برسالة تحمل توقيع ولي العهد الأمير سيدي محمد، يهنأه فيها بفوزه ببطولة العالم في وزن الخفيف الممتاز بعد تغلبه على الأمريكي فرانكي راندال! يقول عن تأثير تلك الرسالة: «عندما صعدت يوم 11 يناير من سنة 1997، حلبة الملاكمة للتنافس على اللقب العالمي، في مواجهة الأمريكي فرانكي راندال، حملت الشعار المغربي رغم أني كنت ألعب تحت ألوان فرنسية.. ربما لإحساسي الباطني بتحقيق رغبة دفينة للوالدين والأسرة، وربما تعبيرا عفويا مني عن انتمائي لأرض المغرب.. لم أكن أدرك حينها أنني سأكون متتبعا من طرف المغاربة جميعا، ولم أكن أتخيل أن عيون القصر الملكي ستكون حاضرة أيضا. حققت اللقب العالمي، سعدت بذلك، ولم ألتفت لما يمكن أن يخلفه ذلك من أثر في نفوس أشقائي المغاربة.. لكن ما حدث بعد ذلك، سيشكل بالنسبة إلي انقلابا حقيقيا، في قناعاتي، في رؤيتي وتفكيري. سافرت أياما قليلة بعد ذلك للولايات المتحدةالأمريكية في إطار منافسة رياضية، وبينما كنت ألج بهو الفندق حيث أقيم، استوقفني موظف الاستقبال ليمدني برسالة تحمل اسمي بعثتها سفارة المغرب من بوسطن! كانت الرسالة مكتوبة باللغة العربية، لم أكن أجيد قرائتها، فتكلف أحد أصدقائي بذلك، وكانت المفاجأة.. فقد كانت تحمل عبارات التهنئة والمباركة من طرف ولي العهد حينها الأمير سيدي محمد! ذهلت وصدمت، إنه خطاب من ولي العهد، نجل الملك الحسن الثاني! إنه تأكيد صريح على انتمائي وأصلي، إنها الإشارة المولوية التي كنت بكل كياني أنتظرها لترسيخ انتمائي وهويتي.. إنها القرص المنشط الذي حرك مشاعري وجعلني أراجع كل أوراقي وألتفت باهتمام كبير للخيط الرفيع والمقدس الذي يشدني كثيرا وبعمق لوطني الأصلي المغرب! قبل ذلك بحوالي تسع سنوات، وتحديدا سنة 1988، كان المرحوم الحاج بوشنتوف رئيس جامعة الملاكمة ، قد استقدمني إلى المغرب لحمل القميص الوطني للمشاركة في أولمبياد سيول. لبيت طبعا الدعوة بدون تردد، وقبل السفر إلى سيول، حظي الوفد الرياضي باستقبال ملكي بالرباط. بدا لي الأمر حينها إجراء عاديا، لم أكن متعودا على مثل تلك الطقوس المغربية، لكن وأنا داخل القصر الملكي، انتابتني أحاسيس جميلة ومروعة في الآن نفسه . عاينت وجوه جميع أعضاء الوفد ، وكانت ترتسم عليها علامات الخوف والرهبة. ربما أصابتني العدوى، لا أعلم، لكن الأكيد هو أن للراحل الحسن الثاني هيبة خاصة تجعل الماثل أمامه لا يملك إلا أن ينحي احتراما وتقديرا! بعد انتزاعي اللقب العالمي في سنة 1997، ستسنح لي الفرصة للمثول مجددا أمام الملك الراحل الحسن الثاني. ومرة أخرى، كان الحاج بوشنتوف وراء دعوتي للقدوم إلى المغرب للمشاركة في احتفالات عيد العرش بالقصر الملكي، سعدت بالدعوة لرغبتي في لقاء جلالة الملك مباشرة بعد نجاحي في انتزاع اللقب العالمي. لكن ما سيحدث وأنا في القصر الملكي واقفا أمام جلالة المرحوم الحسن الثاني، سيترك في نفسي أثرا بالغا، وألما سيسكن كل كياني لفترة ليست بالقصيرة! كنت مزهوا باللقب العالمي، سعيدا بحضوري في القصر الملكي، منتشيا بالترحيب الذي لقيته من طرف الجميع.. ولجت رحاب القصر الملكي وأنا أحمل حزام اللقب، وعندما حان دوري للسلام على جلالته، تأهبت لتقبيل يده كما فعل قبلي المدعوون الآخرون، انحنيت ليمسك بكتفي الملك، ويوجه نظراته مباشرة في عيني.. انبهرت لقوة شخصيته، أعجبت بطريقة حديثه. قمت بتقديم الحزام أمام جلالته، ليفاجئني بالسؤال:«شكرا، إنه هدية أليس كذلك؟»، لم تكن إجابتي عادية أو متوقعة، فقد تجرأت على إجابة جلالته :«لا جلالة الملك، إنه ليس هدية، فهو مازال مطروحا للمنافسة، ولا يمكن أن أتركه لجلالتكم..» أذكر أنه وأنا لم أتم حديثي، حتى انتفض عبدالحق لمريني المسؤول عن التشريفات وبعض معاونيه، وبصوت مرفوع:«كلشي ديالكم نعام آسيدي.. كلشي ديالكم نعام آسيدي..». ابتسم جلالة الملك، وركز نظراته في عيني، وقال:«لا عليك، احتفظ بالحزام، ولكن اجتهد وواصل مثابرتك حتى لاتضيعه». أعجبت بتفهم جلالته، وبتواضعه، وسعدت بنصائحه وتوجيهاته، لكن سعادتي وأنا أغادر القصر الملكي سيتعكر صفوها وأنا أستمع لملاحظات من كانوا برفقتي، بل وعتاباتهم أزاء رفضي إهداء جلالته الحزام.. شعرت حينها بالحزن والألم، وندمت على ما اقترفته من خطأ! كيف لي أن أرفض طلب الملك؟ وكما فسر لي مرافقي وأصدقائي، لم يسبق لأي أحد أن تجرأ على قول لا للملك، والملك عندما يعبر عن أية رغبة، فيجب أن تلبى وتنفذ! انشغل ذهني طيلة الأيام الموالية بذلك الحدث، لم أنجح في نسيانه، شغل تفكيري بشكل كبير، ولم أتخلص من آثاره إلا عندما نجحت في تحويله إلى مصدر للتحدي والبحث عن تحقيق إنجاز آخر، والظفر من جديد بحزام اللقب العالمي لا لهدف آخر غير إهدائه لجلالة الملك!