إسمها نجود، فتاة بسيطة صغيرة، تنحدر من محافظة «حجة» شمال غرب اليمن حيث تعيش مع والديها رفقة 16 من الأخوة والأخوات. تعتقد نجود أنها تبلغ من العمر عشر سنوات، ففي بلدها اليمن لا يتوفر السواد الأعظم من أبناء البوادي على وثائق ثبوتية، وغالبيتهم لا أثر لهم في سجلات الولادة. مثل أي فتاة في العاشرة من العمر، تعشق نجود اللعب بين أزقة قريتها، وتحب لعبة القط والفأر مع صديقاتها وأخواتها، والألوان المفضلة لديها هما الأحمر والأصفر، وهي تفضل الشوكولاتة وجوز الهند، وتحب الكلاب والقطط، كما أنها لم تعرف البحر مطلقاً وتحلم بأن تعانق يوما أمواجه. نجود علي رفقة الصحفية الفرنسية ديلفين مينوي، تقربنا من تفاصيل تجربتها الفريدة، التي صاغتها في كتاب عنونته ب«أنا نجود، عممري 10 سنوات، مطلقة» كيف تمكن فارس بأن يحط الرحال هكذا بعيدا؟ في أية مدينة بالضبط، يوجد الآن؟ هل كان له الحظ في أن يمتطي الطائرة وأن يحلق مخترقا السحاب؟ أين توجد بالضبط المملكة العربية السعودية؟، هل ثمة بحر حيث توجد؟ أسئلة كثيرة تتزاحم في رأسي. بمصادفتي لحوار بين والدي ومحمد بدا لي بأن فارس كان موضوع عملية تهجير، ويقال إن هذا الأمر متداول في اليمن. هل هذا يعني أن فارس عثر على والدين يتبنيانه؟ربما، إنه سعيد، بعد كل هذا، وإنه الآن بإمكانه أن يقتني الحلوى، وسراويل الجينز التي طالما رغب في شرائها. أما بالنسبة لي فقد اشتقت إليه كثيرا. من أجل سد الفراغ الذي أحدثه، ظللت حبيسة أحلامي. أحلم بالمياه. ليست مياه الانهار، بل مياه المحيط.. كنت دائما أتمنى أن أشبه سلحفاة كي أتمكن من دفن رأسي تحت الماء. لم أرالبحر قط. أرسم أمواجا على أوراق مذكرتي بأقلام التلوين، وأتخيلها خضراء وزرقاء. انها زرقاء! كما أوضحت لي يوما صديقتي ملاك تسترق النظر من تحت كتفي. ملاك وأنا أصبحنا صديقتين لا تفترقان. لقد قابلتها بمدرسة حي القاع حيث اقتنع والداي أخيرا بأن يسجلاني فيها لمتابعة الدراسة. فلحظة الاستراحة، كنا نلعب «الكلة» كانت ملاك أعز صديقاتي بين التلميذات السبعين المتكدسات في الصف. لقد تفوقت في دراستي خلال السنة الأولى، وأنا الآن في صفي الثاني. كل صباح كانت ملاك تمر علي بالبيت لنذهب معا إلى المدرسة. وماذا تعرفين عن البحر؟ خلال العطلة، كان والداي يصطحباني إلى الحوديدة، هناك يمكننا أن نرى البحر، أجابتني ملاك. أي طعم له. مالح وهل الرمال، زرقاء هي الأخرى؟ كلا إن لونها أصفر، إنها رمال ناعمة لو تعرفين.. وماذا نجد في البحر؟ سفن، أسماك، وأناس يسبحون.. حكت لي ملاك أنها تعلمت السباحة هناك. كان ذلك مذهلا بالنسبة لي، وأنا التي لم تطأ قدماي قط، مسبحا. كنت أود أن أفهم كيف تستطيع أن تطفو فوق الماء، لم أتكمن من تفسير هذا اللغز. إنني أتذكر فقط صراخ والدتي الذي يتعالى كلما اقتربت من النهر لتحذرني، حينما كنا في قريتنا: انتبهي، إذا ما سقطت سوف تغرقين! اخبرتني ملاك، أن والدتها اقتنت لها لباس سباحة مزركش، وأنها تعرف كيف تبني قصورا من الرمال بمناراتها ودرجها التي تندثر فيما بعد تحت الأمواج. ذات يوم وضعت على إحدى اذناي محارة كانت قد جلبتها من الحوديدة انصتي جيدا، فستسمعين صوت البحر. أنها أمواج، إنني أسمع أمواجا. الأمر ! لا يصدق! أردد بصراخ. بالنسبة لي كان الماء يعني لي بالدرجة الأولى المطر، الذي يبدأ يقل يوما عن يوم في اليمن. يحدث أن يباغتنا البَرَد في عز الصيف. يا لها من سعادة. كنت أنا وإخوتي وأخواتي، نتسابق جريا في الأزقة لنجمع حبات البَرَد المثلجة في إناء. كنت أفتخر ُبِعَدِّها ، لأني تعلمت بالمدرسة الحساب من واحد إلى مائة. وبعدما يذوب البَرَد نستمتع برش مائه البارد على وجوههنا بحثا عن انتعاشة. أختي منى التي أصبحت ذات طبيعة منقبضة منذ أن وصلنا صنعاء، كانت تلتحق بنا في مرات عديدة خلال هذه المناسبات الاستِثنائية.. شهران بعد مغادرتنا المباغتة للقرية في اتجاه العاصمة صنعاء التحقت بنا ملاك رفقة زوجها الذي فرض عليها الزواج منه بشكل مبكر في حياتها. ومع مرور الوقت، بدأت منى تسترجع ابتسامتها الطبيعية،.. لقد وضعت طفلان جميلان، منيرة وناصر اللذين ادخلا عليها السعادة. أسرتنا وأسرة زوجها أصبحتا مقربتين أكثر فأكثر. ولتوطيد هذا الاتحاد، تم اتخاذ قرار تزويج أخي محمد لإحدى أخوات زوج أختي منى.. لم يستمر هذا الفرح طويلا، لقد كان دور زوجها هذه المرة للإختفاء عن الأنظار، في نفس الوقت التي توارت فيه أختي جميلة هي الأخرى عن الأنظار. هل هربا كما فعل أخي فارس أملا منهما أن يكونا ثروة في المملكة العربية السعودية، وأن يجلبا لنا معهما، ربما ألعابا إلكترونية؟ أو تلفازا بصور متحركة ملونة؟. في غرفة والداي، أسمعهما دائما يتحدثان في شأنهما. ممنوع علينا نحن الصغار أن نضع الأسئلة. أتذكر أنه مباشرة بعد اختفائهما المبهم، والذي سأفهم أسبابه في ما بعد، بدأت منى تسترجع بعضا من مرحها، فقد كانت حزينة في أغلب الأوقات ، وفجأة تنفرج أساريرها وتشرع في الضحك الذي تجدد فيه جمالها الطبيعي، مبرزة عينيها العسليتين، وقسمات وجهها الجميلة. كانت أختى منى فتاة جذابة. وسواء أكانت حزينة أو مبتهجة فإنها دائما كانت حنونة نحوي، وتحميني أيضا. وكأنه حس الأمومة. كانت تصطحبني معها إلى شارع الحايل لزيارة واجهات محلاته التجارية المعروفة بمعروضاتها من الملابس. كنت أشاهد بنهم، ووجهي ملتصق بزجاج الواجهة، لباس السهرات، التنورات ذات اللون الأحمر، الأقمصة الحريرية الحمراء، الزرقاء، البنفسجية، الصفراء والخضراء. كنت أتخيل أنني سأتحول إلى أميرة. كانت هناك أيضا فساتين زفاف تشبه ملابس الأفلام أو الملابس السحرية الأسطورية. كان ذلك جميلا. ويجعلك تطير في الحلم. ذات مساء من شهر فبراير2008، وبعدما دخلت المنزل للتو، اخبرني أبي إنه يخبئ لي مفاجئة جميلة. فقال لي : نجود، ستتزوجين عما قريب.