سنحاول، عبر حلقات يومية، أن نرافق هنا قصة امرأة مغربية استثنائية، إسمها ثريا الشاوي.. ولمن لا يعرف ثريا الشاوي، فإنها كانت وعدا مغربيا جميلا، ومثالا مشرفا للمرأة المغربية، كونها كانت أول طيارة مغربية في زمن كانت حتى الطيارات الأروبيات والأمريكيات واليابانيات قليلات جدا، بل تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة. هي عنوان اعتزاز لكل مغربي، وإذ نستعيد ذاكرتها اليوم فإنما نستعيد جوانب مشرقة من ذاكرة المغاربة الجماعية. ورغم أنها قتلت في أول سنة للإستقلال، في واحدة من أبشع الجرائم السياسية في المغرب، فإنها بقيت خالدة، وطوى النسيان قتلتها. إننا سوف نرافق قصة حياتها، كما صدرت في كتاب جديد للأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات والأوسمة، أصدرته مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، بعد أن كان يعتقد أنه وثيقة ضاعت إلى الأبد، كون الطبعة الأولى للكتاب صدرت سنة 1956، باسم مستعار لشاب مغربي وطني طموح، هو الأستاذ عبد الحق المريني.. هي قصة أخرى لعنوان من عناوين الشرف في هذه البلاد، نسعد أن نقدمها للناس وللأجيال الجديدة.. بعد أن رأينا كيف طارت الطفلة الصغيرة ثريا الشاوي، في الجو، في طائرة صغيرة وهي بالكاد أكملت سنتها الثالثة من عمرها ( 1940 ) لأسباب صحية، بعد إصابتها بما كان يطلق عليه المغاربة « مرض العواقة ».. وبعد أن قلنا إن ذلك قد طبع ذاكرتها وخيالها الطفل إلى الأبد.. نواصل اليوم، رحلة الحكي الممتع والغني بالمعلومات الذي توفره لنا الوثيقة التاريخية الهامة، التي كان قد جمع مادتها ونشرها في كتاب، منذ أكثر من 50 سنة، الأستاذ عبد الحق المريني، بوازع أدبي ووطني أصيل. الوازع الذي أكيد أنه تشربه من مدرسة والده المربي والأديب والمسؤول السامي عن نظارة الأوقاف في الرباط وسلا، وقبله من جده الذي عمل إلى جوار عدد من الملوك العلويين في نهايات القرن 19 وبدايات القرن 20. ذلك أن ما حرك الشاب الذي كانه في سنة 1956، ليس رغبة في التباهي والشهرة، بل خصلة الوفاء لذكرى شابة مغربية كانت تعد بالكثير في مجال الرمزيات الهائلة التي كان يبنيها المغرب الجديد الناهض آنذاك، المنطلق، الذي كان أبناؤه يسعون بطاقة قوة هائلة لربح الزمن الضائع، بعد أن أيقضتهم صدمة الإستعمار على مسافة التخلف التي تفصلهم عن ما وصلت إليه البشرية من تقدم وازدهار ونماء. حين أطل الموسم الدراسي الجديد لسنة 1941- 1942، كانت ثريا الشاوي قد بلغت الرابعة من عمرها، وهي سن مثالية ليبدأ الطفل الإحتكاك بعوالم التنظيم التربوي، التي تسمح بتجريب ملكاته في بناء عوالمه الخاصة، بعيدا عن وسطه العائلي الأول. بمعنى، أنه يبدأ في الإنتقال من دائرة التربية العائلية الصغيرة، إلى دائرة التربية العائلية الأكبر التي هي المجتمع. هكذا نقرأ في الكتاب - الوثيقة، أنه « بعد انتهاء موسم العطلة الدراسية سنة 1941 كانت ثريا تبلغ من العمر أربع سنين، فدخلت مدرسة «دار اعدييل» بحومة واد أرشاشة [ بمدينة فاس ]. وكان يُدرَّسُ فيها القرآن الكريم والعربية والفرنسية. فاعتنت بها إحدى المعلمات أحسن اعتناء، وهي الآنسة بن سودة، فعطفت عليها عطفا أبوياً، وأحاطتها برعايتها الكاملة، لما رأت فيها من نبوغ، وولوع بالعلم، وتعطش للثقافة، وتطلع الى المعرفة. فحفظت ثريا ما تيسر من القرآن الكريم. وقد امتازت في المدرسة بأخلاق فاضلة، وذكاء حاد، وتهذيب حسن، فالتفتت الأنظار إليها إعجاباً». ثم في تطور طبيعي، لمسار طفلة من جيلها، بالظروف المحيطة بفاس وبالمغرب، كان مفهوما أن تلج ثريا الشاوي إلى عوالم السياسة، في بعدها الوطني، النضالي. وهو الولوج الذي قادها باكرا إلى الإعتقال والإستنطاق، حتى وهي لا تزال طفلة صغيرة. فقد كان الوعي الوطني قد تشكل في المدن المغربية، بعد التجربة السياسية للحركة الوطنية في بعدها السلفي ( السلفي المتنور، وليس بالمعنى السلفي المتشدد والإنغلاقي، الذي تعيشه أجيال اليوم. لأن المسافة هائلة بين شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي مثلا، الرجل الوطني المتنور، وكل صف منظري السلفية المغربية والعربية اليوم، الذين هم نكوصيون، مرتهنون لحسابات خارجية أكبر منهم وقليلا ما يعون أخطارها وإسقاطاتها ). ثم بعد البدايات الجنينية للجيل الجديد من الوطنيين السياسيين المغاربة الشباب في كبريات المدن المغربية آنذاك ( فاس، مراكش، تطوان، الرباط والدارالبيضاء )، مع نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات، التي كان من عناوين بروزها السياسي، وثيقة كثلة العمل الوطني لسنة 1937، ثم وثيقة 11 يناير التاريخية الهامة لسنة 1944. فالشباب الذين هندسوا الوثيقتين معا هم عناصر الجيل الجديد من الوطنية المغربية، التي نظمت المواجهة سياسيا ونقابيا وشبابيا وتربويا ضد التغلغل الإستعماري في المغرب. بل ونجحوا في أن يخلقوا تجربة فريدة في كل العالم العربي والإسلامي، وهي التحالف مع الجالس على العرش، السلطان محمد بن يوسف ( الملك الوطني محمد الخامس )، في ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية ب « ثورة الملك والشعب »، من أجل معركة واحدة هي تحرير الأرض المغربية من المحتل الأجنبي، وأيضا تحرير الإنسان المغربي من أسباب التخلف عبر نهج الخيار الديمقراطي في التدبير ( هذه هي روح وثيقة 11 يناير التي حررها الطرفان معا بشكل سري ). كان طبيعيا، إذن، أن تلج ثريا الشاوي عوالم النضال الوطني، لأنها كانت أشبه بسمكة في بحر من الحركية السياسية الوطنية، الناهضة والواعية، فكان أن قادها ذلك إلى الإعتقال. ولنترك الأستاذ المريني يحكي لنا الواقعة، كما تمكن من جمع تفاصيلها من مصادرها المباشرة والموثوقة. لقد كتب يقول: « أثناء مقامها في هاته المدرسة [ يقصد مدرسة « دار اعدييل » ]، كانت مدينة فاس مسرحا لحوادث 1944. فقررت معلمة ثريا، أن تعلن الإضراب في المدرسة، احتجاجاً على أعمال العنف. فنادت على ثريا الطفلة، وأمرتها أن تأتي في الصباح الباكر قبل مجيء التلميذات، وتأمرهن أن تؤدين القسم أمام المصحف بأن لا يرجعن لمتابعة دروسهن حتى يستقل المغرب. فقامت بدورها أحسن قيام، ونجح الإضراب نجاحا تاماً. وكانت تدير المدرسة سيدة فرنسية، فتوصلت بالخبر، فأعلمت الادارة بما جرى، وكانت الادارة تظن أن صاحبة الدور فتاة قد تجاوزت العشرين عاماً. فأرسل رئيس الناحية ضابطاً عسكرياً مصحوبا بالسلاح، فلما وصل الى باب المنزل الكائن بدرب الرظاونة رقم 7 ، طرقوا الباب، ودخلت العريفة تبحث عن الفتاة، ليلقى عليها القبض في الحين. وخرج أبوها وابتسم في وجه الضابط ابتسامة السخرية والاستهزاء، وقال له: - إنها طفلة صغيرة أيها الضابط. - جئنا لنلقي القبض على ثريا ابنتك ولننفذ الأوامر. وفعلا ألقوا القبض على الطفلة وحملوها الى «الناحية»، وأدخلوها في نطاق البحث. من أمر التلميذات بالإضراب؟ أنا. من حملك على القيام بهذا؟ لا أحد، لما قدمت إلى المدرسة مبكرا، لتتميم بعض الواجبات وجدت على السبورة الجملة الآتية: «أول تلميذة تدخل إلى القسم، تمنع التلميذات من الدخول، وتأمرهن بالانسحاب». هذا غير ممكن. أنا لا أكذب، ما قلت لكم إلا الحقيقة. لمن الخط؟ لا أدري. هل دفعك والدك؟ لا، والدي ليس له علم بالأمر. سنهدي إليك هدية جميلة، قولي لنا من الذي أمرك؟ كل ما لدي قد صرحت به لكم.». فأطلقوا سراحها بعد أن خرجوا صفر الكفين. وأرسلوا إلى أبيها رسالة تهديد يعلمونه فيها أنهم سيتتبعون حركاته وسكناته. ومن سنة 1943 أحضر لها والدها أستاذاً من أساتذة القرويين العامرة، الأستاذ السيد ادريس بنسودة، كان يلقنها يوميا دروسا في الفقه، والنحو والتاريخ والإنشاء والمحادثة، لتنوير فكرها، حتى تحسن من كل فن طرفاً. وفي البيت كان والدها يتحدث إليها فيما حصلته من دروس، وينهال عليها بالأسئلة في كل ما استفادته، فيجد فيها استعداداً كبيراً ويلمح فيها إدراكا حاداً. وفي متم سنة 1944 انتقلت الى «مدرسة النجاح» برحبة القيس، وهي مؤسسة حرة لحزب الاستقلال، كان يديرها الأستاذ الهاشمي الفيلالي، تحت رئاسة الوطني الغيور السيد أحمد مكوار، فحصلت على الشهادة الابتدائية سنة 1946، وقد بلغت من العمر تسع سنين، وتابعت دروسها الخاصة مع الأستاذ الآنف الذكر، إلى أن انتقلت مع والديها سنة 1948». الإنتقال هنا، يقصد به الأستاذ المريني، انتقال العائلة كلها إلى المدينةالجديدة بالمغرب آنذاك، التي أصبحت وجه المغرب الجديد وقوته الإقتصادية الأولى، الدارالبيضاء. مؤكدا أنها انتقلت أيضا للدراسة في تونس لمدة 6 أشهر، كي تتعلم تقنيات تحرير جديدة آنذاك، وغير مسبوقة، هي الرقن على الآلة الكاتبة، لأنها مهنة كانت تدير على ممتهنها دخلا محترما. حيث كتب يقول: « في أوائل 1949 بعثها والدها لتتميم دراستها في الاختزال [ أي الرقن على الآلة الكاتبة ] بتونس، فمكثت ستة أشهر في حضن إحدى العائلات الصديقة، حتى أحرزت على شهادة التدريس في الاختزال، وسرعة القرن على الآلة الكاتبة. وفي شهر غشت سنة 1949 توظفت ككاتب بالوكالة المغربية للأنباء والإشهار والسفر. وأصبحت ثريا المغربية الأولى التي أحرزت على الشهادة في الاختزال». ٭ غدا: من وعد وفى!!