يحاول د. حمو بلغازي في هذا الكتاب، سبر أغوار تقليد أمازيغي ضارب في القدم، دأبت على ممارسته قبائل زمور. ورغم أن تقليد «تاضا» أو الإرضاع الجماعي، قد انمحى وتلاشى مع مرور السنوات وتعاقب الأجيال، لكنه مع ذلك يظل مؤشرا مهما على طبيعة العلاقات التي تؤطر المعاملات بين أفراد تلك القبائل. وكما جاء في التمهيد الذي وضعه السوسيولوجي المغربي، حسن رشيق، للكتاب، فإن بلغازي «يقدم تحليلا للتقليد الذي يحدد ويجدد الميثاق والالتزامات الاجتماعية لتلك القبائل، وكذا العقوبات التي تترتب عن كل من أخل بتلك الالتزامات. كما يسلط الضوء على دور ذلك الميثاق في فض النزاعات التي قد تحدث». وحسب بلغازي، فإن عادة «تاضا» «إذا كانت تستمد اسمها من هذا الإرضاع الجماعي الرمزي المتبادل (تبادل الوجبات الطقوسية وفق القواعد المقدسة للضيافة)، فإنها لا تختزل في الأخوة بالرضاعة فقط. فأفراد الجماعات المرتبطة بتاضا (أيت تاضا) التي «يقترن» أرباب الأسر من رجالها عن طريق إجراءالقرعة بخصوص أحذيتهم، يعتقدون أن هذه الرابطة أمر رهيب لأنها مقدسة وذات طابع خارق للطبيعة: فكل إخلال باحترامها من شأنه أن ينتج عنه عقاب غيبي شديد. وبحكم الحكايات الكثيرة المتداولة التي توحي بالهلع والرهبة من العقاب الذي يمكن أن يلحق بكل مخل بتاضا، فإن هذه الأخيرة تشكل ميثاقا قويا وناجعا، وظيفته الأساسية هي إقرار وضمان استمرارية التوازن المجتمعي داخل الكيان القبلي». انطلق حمو بلغازي في السادس عشر من أكتوبر 1986 في رحلة على متن شاحنة مكتظة بالمسافرين في اتجاه موسم سيدي العربي البوهالي، الذي ينحدر من قبائل زعارة من بني احسن، بمنطقة زمور، والمدفون بمنطقة زمور، على حدود غابة معمورة وعلى بعد عشرين كيلومترا من الشمال الشرقي لمدينة تيفلت. هناك ينعقد موسم سنوي يمتد لستة أيام على منحدر يشغل مساحة خمسة عشر هكتارا. موسم يعج بالحركة، بل هو «قرية» من الخيام البيضاء والسوداء موزعة على مجموعة من الأحياء، مجتمع مصغر ومتعدد الأوجه، نقطة الجذب فيه هي الخيام المخصصة للمعاملات التجارية وضريح الولي الصالح وساحة الاحتفالات. يجوب الحجيج من الصباح إلى المساء بين خيام التجار التي تتوفر فيها المواد الاستهلاكية (الدقيق، الزيت، السكر، الشاي، نبتة النعناع، الفواكه، الخضروات...) ومواد المحروقات (الشموع، الفحم الخشبي، قارورات الغاز، والغاز المسال...) ومنتجات أخرى (آلات التسجيل، أشرطة الكاسيت، أجهزة الراديو، الأواني...). تراهم يتوقفون للحظة لتفحص المعروضات وربما لاقتنائها، ثم يتابعون طريقهم. وعلى امتداد اليوم أيضا، يقوم العديد من الأشخاص، لاسيما النساء منهم، بالتوجه إلى الضريح ليوقدوا فيه الشموع أو تقديم هدية ما أو رفع أكف الدعوات. وما أن تشير عقارب الساعة إلى الثالثة بعد الزوال، حتى تظهر مجموعات من الفرسان، تتوجه بدورها نحو الضريح قبل أن تحط الرحال بالساحة الكبيرة التي تتوسط الخيام. طلقات من البارود كانت كافية للخيالة لإخبار الجميع بقدومهم، وانطلاق حفل الفنتازيا الذي يستمر إلى أن تعلن الشمس عن ساعة غيابها. فضاء الاحتفالات بالموسم كان فعلا ملتقى للجميع، رجالا، نساء وأطفالا. البعض يستمتع بحفل الفنتازيا، والبعض الآخر تحلق حول ناظمي الشعر، أو مروضي الثعابين، أو منفذي الحركات الأكروباتية أو حتى المشعوذين. تهدأ الأجواء شيئا فشيئا، لكن ما إن يتناول الجميع وجبة العشاء، حتى يدب النشاط والحركة في الساحة من جديد، مهرجون، حكواتيون، راقصون، مغنون وفرق أحيدوس. الكل يجمعه هم واحد ومهمة واحدة: إحياء الاحتفال الليلي. غير أن الحدث المهم والفريد من نوعه، في خضم كل تلك الاحتفالات، يظل هو التقليد المجتمعي الذي ينتظره الجميع: عادة تاضا، أو الإرضاع الجماعي. من بين آلاف الزوار الذين يحجون إلى الموسم، كان هناك عدد من الأشخاص، رجال ونساء، يرتدون أجمل الثياب وأفضلها لكن دون أن ينتعلوا أحذيتهم. ينتمي أولئك الأفراد إلى قبيلتي «أيت أونزار» (زمور) و«أولاد حميد» (بني أحسن)، ويصرون على إقامة تقليد «تاضا» على مقربة من ضريح سيدي العربي. خيام أفراد القبيلتين تفصل بينها مسافة 250 مترا، وهي المساحة التي تغطيها خيام المجموعات القبلية الأخرى. خلال الأيام الأربعة الأولى من الموسم، لا يتحدث أفراد القبيلتين مع بعضهم البعض ولا يتبادلون الزيارات، بل ويتجنبون الاقتراب من مخيمات بعضهم. غير أن كل هذا لا ينفي أنهم يتصرفون كباقي زوار الموسم: يتوجهون إلى الضريح لتقديم العطايا والهبات وطلب البركات، ويتجولون في الأسواق، ويتابعون حفلات الفنتازيا وقد يشاركون فيها، ويحضرون الأنشطة الليلية التي يحييها فنانون شعبيون، لكنهم ما أن يصادفوا أحد أفراد القبيلة الأخرى، حتى يتظاهرون بعدم معرفتهم، ولا يلقون عليهم التحية. ما إن تنقضي هذه الأيام الأربعة حتى تتغير سلوكات أفراد القبيلتين، وينطلق فصل آخر من فصول عادة تاضا العريقة.