في مجتمع تحكمه قيم الفردانية وتتسيد فيه قيم الاستهلاك الفظيعة في ظل سلطة صور الإعلام الطاغية على الصورة التي بات يشكلها الأطفال والشباب، بل وحتى الراشدون منهم، لأسلوب العيش ومستواه، بات من الصعب على الآباء والأمهات فرملة المتطلبات والرغبات الجامحة لأطفالهم، فما بالك بأبنائهم الذين دخلوا طور المراهقة، وأصبحوا يخضعون من حيث لا يدرون لسلطة المقارنة الاجتماعية التي تجعلهم أسيري صور إعلامية نمطية مثالية تسوق قيم الجمال والأناقة الكاملين ملفوفين في قالب المتعة وحرية الاستهلاك. انتهى زمن خطاب القناعة و«حزيم السمطة» و«ترقاع الوقت» إلى حين... أفق تمثل المراهقين لأسلوب العيش أصبح أكثر رحابة وتطلبا من حياة الكفاف التي شب عليها اغلب آباء الجيل الحاضر. « أنا امرأة مطلقة، كنت أشتغل سكرتيرة لدى محام، كانت أجرتي محدودة، لكنني كنت أصر على أن أعوض ابني ما حرمته، وما حرمه منه أبوه الذي هجرنا منذ سنوات الزواج الأولى. ملابس عصام، لعبه، متعه، أسفاره، كانت ذات تكلفة عالية تتجاوز قدراتي الشرائية، لكنها كانت تجعلني أحس بحالة رضا كبيرة، ستتحول مع تقدم ابني عصام في السن إلى كابوس فظيع سأدفع ثمنه غاليا. تخيلوا معي متطلبات شاب كان يرتدي في طفولته حذاء رياضيا قيمته ألف درهم؟ ويتلقى مصروف جيب من فئة 100 درهم؟ كانت النتيجة فظيعة تتجاوز قدرتي على الاحتمال، فلقد نسيت في غمرة رغبتي في ملء فراغ الأب وقتل صورته أن أربي ابني على الاعتدال، نسيت أن الطفل الجميل الوديع سيكبر ذات يوم، ومعه متطلباته ورغباته واحتياجاته»... صرحت لنا إحدى السيدات اللواتي عانين من انفراط عقد البراءة لدى أطفالهن وتحولهم إلى جلادين يمارسون هواية الضغط على آبائهم للوصول إلى ما يعجز القدرة الشرائية للأسرة. حب عصام ودلاله تحول إلى سلطة طاغية وأداة تعذيب يومية للأم التي انتبهت متأخرة إلى أخطائها. فالأطفال في حاجة دائمة إلى سقف للحرية، للصرف، للاستهلاك، للعب، للمتعة... حين تنعدم المقاييس والمعايير، تخرج الأمور عن السيطرة، ويتحول سلوك المراهق إلى نوع متطور من الجموح واللامبالاة واللامسؤولية التي تأتي على مستقبله الدراسي وعلى موقعه وعلاقاته الاجتماعية. مع الوقت، تحول عصام إلى حياة الإدمان، وعلب الليل، والمجون والهلوسة... فقد استكشف في طفولته كل ما كان يمكن استكشافه في فترة مراهقته، بل وحتى بعد حصوله على وظيفة تتيح له إمكانيات الاستهلاك والمتعة، مبيت خارج البيت، علاقات جنسية لا حصر لها، نوبات عصبية حادة، متطلبات مالية لامتناهية. والأسوأ من كل هذا وذاك، مسار دراسي انتهى بالفشل باكرا. فالطفل الذي قدت سلوكاته وردود أفعاله واختياراته الاجتماعية من دلال مفرط، استعصى عليه احترام الأساتذة، والوقت والالتزامات، كما أن ثقافة الاستهلاك المتوحشة التي تملكت حواسه كانت اكبر من كل إرادة إنتاج أو إعادة ترتيب رؤيته للأشياء التي مارست سلطتها على الأسرة كاملة وجعلتها تدفع فاتورة اختياراتها التربوية الفاشلة كاملة. صار من الصعب على الأسرة التحكم في تمثل أبنائها للأشياء، فالإعلام والشارع أثبتا قدرتهما الجهنمية على إعادة بناء منظومة القيم لدى الأطفال.