يتم الترويج منذ شهور في سوق المطالب النقابية للأساتذة الباحثين لمطلب-شعار:"نظام أساسي للأساتذة الباحثين في إطار الوظيفة العمومية"، وهو شعار لا يخلو من دلالات غامضة ومغرضة، خاصة وأنه يطرح في وقت تشهد فيه الجامعة المغربية مخاضات عسيرة على المستوى البيداغوجي وعلى المستوى الهيكلي، وفي وقت تراجعت فيه القيمة المضافة لمطالب الأساتذة الباحثين ودورهم الثقافي والأكاديمي والاجتماعي في خضم التحولات التي يشهدها مجتمعنا. والمطلب-الشعار انطلاقا من قراءة سريعة لمكوناته، يوجهنا نحو سياقات ذات منحنيات متعددة الأطراف، فالمركبات الكبرى التي يقوم عليه تتمثل في قطبين دالين أولهما:النظام الأساسي، وثانيهما الوظيفة العمومية، والعلاقات التي يوحي بها الشعار بين القطبين تصب على الأقل في اتجاهين أو احتمالين: 1 إن الأساتذة الباحثين لا يتوفرون على أي نظام أساسي، ومادام الأمر كذلك فإن الضرورة تستوجب المطالبة بإلحاح، بإنشاء هذا النظام لمواجهة الفراغ القائم في هذا الباب، ولكي يكتسب هذا النظام الأساسي فعاليته وقيمته المطلقة ينبغي أن يكون مشدودا إلى خيمة الوظيفة العمومية ومضاربها. 2 إن الأساتذة الباحثين يتوفرون على نظام أساسي، ولكن هذا النظام يقع خارج مقتضيات الوظيفة العمومية، ولذلك ينبغي النضال من أجل العودة به إلى ينبوع الوظيفة العمومية والاحتماء بظلالها ومزاياها الخالدة. و الاحتمال الأول مستبعد تماما، لأن الواقع يفنده ويرفضه، فالأساتذة الباحثون يتوفرون عمليا على نظام أساسي متضمن في المرسوم رقم 2.96.793 بتاريخ 19 فبراير1997 بمثابة النظام الأساسي الخاص بهيئة الأساتذة الباحثين... وإذا كان الأمر كذلك، فإن طرح الشعار المذكور يفترض أن هذا النظام لا يخضع لإطار الوظيفة العمومية، غير أن هذا الافتراض مردود كذلك وغير صحيح، إذ إن الفقرة الأولى من "بناءات" المرسوم المذكور تحيل بصورة صريحة إلى إطار الوظيفة العمومية ومرتكزاتها، وقد ورد فيها:" بناء على الظهير رقم 1.58.008 الصادر في 4 شعبان 1377 ، 24 فبراير 1958 في شأن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية كما وقع تغييره وتتميمه ولا سيما الفصل الرابع منه..." والاستنتاج الصارخ هنا هو أن الأساتذة الباحثين يتوفرون على نظام أساسي يخضع لمقتضيات النظام الأساسي للوظيفة العمومية، فما الذي حمل أصحاب الشعار إلى إطلاقه وتبنيه، ومحاولة تسويقه كإقلاع جريء ولا نظير له في حقل المطالب الأساسية للأساتذة الباحثين، وما خلفياته ودوافعه الحقيقية؟ هل يتعلق الأمر بنظام أساسي غير مشهود ولا يخطر على بال، وإطار وظيفة عمومية أخرى غير التي يرتكز عليها هذا النظام؟.. أكيد أن ثمة جوانب مسكوت عنها في ثنايا هذا المطلب، ويتلافى رافعو الشعار أن يكشفوا عنها الستار، ليقدموا المبررات والمعطيات الملموسة المهنية والنقابية التي تعضد مطلبهم ، خاصة وأن المطلب لا يلعب إلا على جاذبية الوظيفة العمومية وسحرها، التي يوهمنا الشعار بمتعة رضع لبنها والإحساس الرفيع في حضنها بالدفء والأمان وسطوة الدولة، الأم الرؤوف. ومن هنا فإن وراء الشعار ما وراءه، فهو الشجرة التي تخفي غابات الأخطاء والتواطؤات والإجهازات المتتالية على مطالب الأساتذة الباحثين في ظل حكومات التناوب المزعوم منذ 1998، والتي سحبت البساط من تحت أقدامهم بدعاوي الإصلاح المختلفة، وقدمتهم قرابين للاختيارات السياسية اللاشعبية التي كانت تستهدف إسعاف قلب الدولة كي لا يصاب بالسكتة،ولكن في المقابل الدفع بالأوضاع إلى إسكات نبضات قلب الجماهير وإتلاف إيقاعاتها،ولقد كان الصمت المشبوه إزاء تمرير الكثير من النصوص والتشريعات المرتبطة بالتعليم العالي عاملا قويا ومشجعا أسهم في تكريس قوانين ومقتضيات تنظيمية حملت على عاتقها مهمة نسف الكثير من المكتسبات التي حققتها الجامعة المغربية على مدى عقود، وكانت أكبر الأخطاء القاتلة التي ارتكبت في حق الأساتذة الباحثين هي القبول المتواطئ بالقانون 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي الذي أضفى بقوته صفة المؤسسات العمومية على الجامعات، ومنحها شخصيتها المعنوية واستقلالها الإداري والمالي، ولو شكليا، وبموجبه أصبحت الجامعات مستقلة عن الدولة ولا تربطها بها غير علاقة الوصاية، وأصبحت وحدها المسؤولة عن أفعالها الضارة والنافعة، ويترتب عن هذا أن الموظفين التابعين للجامعات بما فيهم الأساتذة الباحثون يتوجب عليهم أن يخضعوا لنظام أساسي جديد وخاص، يختلف عن الأنظمة المتبعة بالنسبة لبقية موظفي الدولة، وكما تقرر الكثير من بنود القانون 01.00 التي تم الترويج أن بعضها تعرض للتجميد المؤبد، لكن الأمر لم يكن إلا خدعة في الواقع فإن الأساتذة الباحثين من المفروض أن تسحب عنهم صفة موظفي الدولة أو الموظفين العموميين، ليخضعوا للأنظمة الأساسية التي على المؤسسات العمومية الجديدة ( الجامعات ) التي ينتمون إليها أن تقوم بإنشائها، وهذا ما لم تقم به الجامعات لحد الآن. والظاهر أن الذين تواطؤوا مع صناع كوارث القانون 01.00 استفاقوا من نوبة التواطؤات التي غرقوا فيها، وأدركوا حجم إساءتهم إلى الجامعة المغربية وإلى الأستاذ الباحث، ويسعون الآن إلى تصحيح تواطؤاتهم المثقلة بالعجز، ومحاولة استدرار عطف الأساتذة الباحثين وطلب صفحهم، عن طريف الالتفات المتأخر والخائب إلى أن موقع الأستاذ الباحث مهدد وقد يتعرض للاهتزاز والارتجاج في ظل ما يرتقب أن تؤول إليه الأمور في صلب الاستراتيجية الجديدة المتبعة تجاه التعليم العالي والجامعة المغربية، وأن غبار الوظيفة العمومية قد يوهم بشكل حرب لا هوادة فيها يقودها رافعو الشعار من أجل إنصاف الأساتذة الباحثين. وفي تقديرنا فإن هذا المطلب-الشعار لا معنى له إطلاقا، والذين ارتكبوا الأخطاء الجسيمة في حق الجامعة المغربية والأساتذة الباحثين إنما يحاولون الالتفاف على تلك الأخطاء ليصطادوا نجوما يحاولون تزيين سمائهم بلمعانها، فالأساتذة الباحثون يتوفرون على نظام أساسي،خاضع لمقتضيات النظام الأساسي للوظيفة العمومية وما يزالون خاضعين لأحكامه لحد الآن، وبموجب نص الفقرة الثانية من المادة 90 من القانون 01.00 كذلك ، وما هو مطلوب عمليا هو النضال من أجل الحفاظ على المكتسبات والحقوق التي يضمنها هذا النظام، والنضال الجاد المسؤول من أجل تصحيح وتقويم الكثير من الأخطاء والانحرافات التي تضمنها هذا النظام وفي مقدمتها الحيف الكبير الذي كرسه في حق الأغلبية الساحقة من الأساتذة الباحثين: حملة دكتوراه السلك الثالث، ودبلوم الدراسات العليا وحملة الدكتوراه الوطنية والفرنسية بعد 1997، ومن السذاجة الفرط في هذا النظام وإطاره، والقفز نحو قعر هاوية مطالب غير مضمونة الجانب، والذين يعزفون على كمان هذا الشعار إنما يدفعون الأساتذة الباحثين إلى التخلي الطوعي عن آخر أوراقهم وعن آخر نظام إطار يجمعهم وتسليم آخر حصن يتحصنون به إلى الأعداء المحدقين، ليجدوا أنفسهم بعده خارج أي نظام ويغدون لقمة سائغة لتلتهمهم الأنظمة الأساسية المفترض أن تنشئها الجامعات كمؤسسات عمومية، والتي ستقدم على أنها ارتماء ناجح واسترخاء مريح في أحضان الوظيفة العمومية، وهذه إحدى الغايات الكبرى المضمرة في غواية هذا الشعار. كلية الآداب .مكناس.