مرق يلهج من شدة الوجل، حافي اليدين، ينخس رجلاه في بوار الروث المتخثر، متهوكا في الظلالة، تنخلع له القلوب المكلومة من وقع الطامة الصاخبة.. ولما بلغ أعلى الرابية، طرح قرابه، فأخرج غليونه وطفق يشخط نفيرا وزفيرا. تصبب عرق بارد من على ناحيته، لاح يبصره فإذا بقزم أرقط يزحف صوبه.. حياه باليمنى، فاستكان صاحبنا «الاقفر» وأحس بالأمان، آنسته دهشته وخوفه.. رد التحية.. جلس القزم ملفوفا في ثوبه الابيض الناصع ككومة قطن خرساء، احتار صاحبنا في التمييز بين وجهه وقفاه، ولاذ بالصمت!!.. - نطق القزم: من أنت وما الذي قذف بك في رحاب هذا الربع المكنون؟ من أنت ومن تكون؟.. - رد صاحبنا: عفوا سيدي، أنا طالب «ضيف الله»، أرغمني التعب، وكبر السن على التوقف قليلا، فأنا لست بسارق أو دجال أو مبشر.. أنا فار من جحيم قدري الذي يلاحقني ويلازمني منذ بلغت الرشد.. لم يمض يوم منذ حياتي إلا واعترضتني اللعنة والمتاعب، سيدي أنا وجه ملعون، غير صالح لهذا الكون.. ساعدني أرجوك لأبحث عن حتفي، عن اليوم الأخير في حياتي الذي طال انتظاره!!.. - أنت جاحد إذن؟ ألا تخشى يوم القارعة؟ - أنا لا شيء أكثر من خلقتي.. وليس لدي ما أخسره حتى حساب الملائكة يوم النشور!!.. - عن أي نشور تتحدث؟ هل هناك أقسى مما أعيشه.. ثم إن ملاك الحساب لايخيفني، فلذي من الحجج والادلة ما يخيفه مني.. منذ أحس بكينونتي وأنا مشاء في رحاب الكون، لا آكل إلا فضلات الآخرين، لم أزهق روح طائر أو بشر.. لم أفتر على أحد.. لم أعتد حتى على نفسي، رغم أن الرغبة في ذلك كانت تساورني في صحوتي ومنامي .. - صاح القزم: إياك والغلو!!.. - عن أي غلو تتكلم؟ - إنك تبالغ في كره نفسك وتحاول ايذائها.. وهذا أكبر الكبائر.. - إنها نفسي، وأنا أحق من غيري في أن أفعل بها ما أشاء.. - جاهل أنت.. نفسك روح قد تفارق جسدك النتن في أية لحظة لتلتحق بمثواها الأبدي، وحينها سيحاسبك الملاك إن أنت قمت بإيذائها.. -الملاك!؟ الملائكة؟ كيف لهؤلاء أن يحاسبونني؟ أنا عربي مسلم وكلهم افرنجيون؟! (٭) نشر هذا النص الجميل بجريدتنا يوم 24 نونبر 2005