في قطاع غزة يأتي التحذير دائماً من السماء، إلا أنه هذه المرة وبدلاً من أن تُسقط الطائرات القنابل والصواريخ على القطاع الفقير كما جرت العادة، ألقت الآلاف من المنشورات الصغيرة التي تطلب من سكان غزة الابتعاد عن الحدود الممتدة على مسافة 30 ميلًا، وتنصحهم بالبقاء على مسافة لا تقل عن 300 متر، وإلا تعرضوا لإطلاق النار من قبل الجيش الإسرائيلي. وفيما كانت المنطقة الحدودية المتاخمة لإسرائيل مكاناً تزدهر فيه بساتين الزيتون والحمضيات والرمان، تحولت اليوم إلى أرض جرداء تجوبها الدبابات الإسرائيلية، وتتمركز فيها أبراج المراقبة، بالإضافة إلى أصوات إطلاق الرصاص التي تسمع بين الفينة والأخرى. وبسبب هذا الوضع، نزحت الكثير من الأسر والمزارعين من حقولهم خوفاً من الجيش الإسرائيلي، في الوقت الذي تبقى فيه المنظمات الإنسانية عاجزة عن تقييم الدمار الذي لحق بالمنطقة واحتياجاتها الملحة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع، وهو ما يوضحه «محمد الشتالي»، مدير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة في غزة قائلاً: «لم نتمكن بعد من زيارة القطاع، بل لم تتمكن من ذلك أي من المنظمات الأخرى»، مضيفاً: «لقد ضاعفت الحرب نسبة الأراضي التي دمرت، لا سيما في المنطقة الحدودية بحيث لم يعد بمقدور المزارعين استغلال أراضيهم، لما يمثله ذلك من خطر على حياتهم». ويرجع تاريخ المنطقة العازلة التي أقامتها إسرائيل في شمال قطاع غزة إلى أكثر من عقد من الزمن لمنع هجمات المسلحين الفلسطينيين الذين يستخدمون المناطق الحدودية القريبة كأماكن لإطلاق الصواريخ على البلدات والمدن الإسرائيلية المجاورة، أو حفر أنفاق لتنفيذ هجمات ضد الجيش الإسرائيلي المرابط بالقرب من الحدود. لكن ما كان في الماضي مجرد مساحة محدودة من الأراضي المحصنة في المنطقة الشمالية للقطاع وأجزاء من الحدود الشرقية، اتسع اليوم بعد الحرب الإسرائيلية في شهر يناير الماضي، ليشمل أراضي أكبر تمثل حوالي 30% من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة في غزة حسب منظمة الزراعة والأغذية. ووفقاً للمنظمة ذاتها تتوغل المنطقة العازلة بعمق يصل إلى 1.25 ميل داخل أراضي غزة في الشمال ونصف ميل باتجاه الشرق، رغم ما تقوله المنشورات الإسرائيلية من أن المساحة المحصنة لا تتجاوز 300 ميل، وهذا فيما لا يتعدى طول القطاع 25 ميلًا وأكثر بقليل من ستة أميال عرضاً. وقد رفض المتحدث باسم وحدة الجيش الإسرائيلي المرابطة في شمال القطاع التعليق على الإجراءات، التي يتخذها الجيش في المنطقة العازلة، وما إذا كان الفلسطينيون قد تلقوا مطويات تحذيرية حول الموضوع، لكن «شلومو بروم»، الضابط السابق في الجيش الإسرائيلي والباحث بمعهد الدراسات الأمنية في تل أبيب يقول إن ما يقوم به الجيش في المنطقة العازلة مبرر للغاية بالنظر إلى تكرر الهجمات التي ينفذها المسلحون الفلسطينيون. فحسب إحصاءات الجيش الإسرائيلي أُطلق أكثر من 7000 صاروخ من القطاع على إسرائيل منذ عام 2005، وفي عام 2006 تمكن الفلسطينيون من حفر نفق تحت الحدود بين غزة وإسرائيل وخطفوا الجندي «جلعاد شاليط» الذي لم يطلق سراحه حتى الآن، لذا يؤكد «بروم» أن اتخاذ إجراءات صارمة في المنطقة العازلة بشمال القطاع لا يهدف إلى تعقيد حياة الفلسطينيين، بل منع تعرضهم للمعاناة في حال نُفذ هجوم على الدولة العبرية. لكن ومن جهة أخرى أدت حرب إسرائيل في شهر يناير الماضي على القطاع كما التوسعة الأخيرة للمنطقة العازلة في الشمال إلى تدمير القطاع الزراعي في غزة، حسبما أفادت به منظمة الصحة والتغذية العالمية، فرغم تأكيد السلطات في إسرائيل أن الهدف من الحرب هو ضرب «حماس» التي تولت السلطة في القطاع، إلا أن القوة العسكرية التي استخدمت أضرت بالبنية التحتية المتهالكة أصلاً، بالإضافة إلى تدميرها لمساحات مهمة من الأراضي الزراعية التي باتت اليوم جزءاً من المنطقة العازلة. ويؤكد «برنامج الغذاء العالمي» في هذا الإطار أن عدم قدرة المزارعين في غزة على زراعة أراضيهم عقب الحرب الإسرائيلية، حرم القطاع الذي يقطنه 1.5 مليون نسمة من مصدر رئيسي للمواد الغذائية الطازجة بعدما أصبحت عملة نادرة في القطاع بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على القطاع لأكثر من عامين، وأيضاً بسبب الإجراءات الإسرائيلية في الشمال، التي جاءت لتفاقم الوضع. ورغم تبرير «دوناتيلا روفيرا»، مديرة البحث في منظمة العفو الدولية المكلفة بإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، للمنطقة العازلة التي أقامتها إسرائيل في شمال القطاع لحماية بلداتها الجنوبية من هجمات المسلحين، إلا أنها تعترف بأن ردة الفعل الإسرائيلية لا تتناسب مع حجم الخطر الفلسطيني، مشيرة إلى وجود خيارات أخرى يمكن اعتمادها من قبل الجيش الإسرائيلي عدا تدمير القطاع الزراعي في غزة مثل استخدام طائرات بدون طيار للمراقبة والرصد. ومنذ انتهاء العمليات القتالية في قطاع غزة خلال شهر يناير الماضي تعرض 12 فلسطينياً لإطلاق النار قُتل منهم ثلاثة في المناطق التي تبعد 300 ميل عن الحدود، وذلك حسب ما أفاد به ناشطون حقوقيون ومسؤولون طبيون في القطاع، ومن بين هؤلاء الذين تعرضوا لإطلاق النار «نبيل النجار» المزارع من قرية «خزاعة» الذي أصابه الجنود الإسرائيليون في يده عندما رجع ليتفقد بيته المهدم بالقرب من الحدود، وعن محنته يقول المزارع الفلسطيني «لقد جئت لأرى ما يمكن أن أسترده من حطام المنزل، لكني فجأة تعرضت لإطلاق النار وأُصبت في يدي». وفي نفس السياق يقول «عمر» المزارع الذي اضطر لهجر بستان الزيتون الذي يملكه ويبعد بربع ميل تقريباً من الحدود مع إسرائيل »في طفولتي كنا نذهب إلى الحدود دون مشاكل، وكنا نتبادل الحديث مع الجنود الإسرائيليين فنعطيهم العنب مقابل الشكولاته، لكنهم اليوم يمطروننا بالرصاص إذا اقتربنا». عن «كريستيان ساينس مونيتورش