في ربيع 1957، عاماً وبضعة شهور بعد الاستقلال كشرط ووعد بالتحرر فقط، قال المهدي عن زيارته للولايات المتحدةالأمريكية، وهو في موقع رجل الدولة؛ «... أعتبر بأن المرء، حينما يتوجه إلى الخارج، فهو يبتدئ باكتشاف نفسه وعمق مشاكله النوعية، قبل أن يكتشف البلد الذي سيزوره...» وبالفعل، فقد كانت المدة الفاصلة بين الاستقلال والزيارة كافية للتعرف على مشاكل المغرب النوعية ولاكتشاف الذات المغربية والوقوف على «نقط القوة» و«نقط الضعف» فيها، كامتداد لكشوفات المرحلة الاستعمارية والعوامل التي مهدت لها، والتي أدت إلى استسلام المغرب الطوعي والاضطراري للاحتلال وفقدان زمام أموره... وعلى كل حال، لم يكن توجه «المغاربة أقوياء النفوس» إلى الخارج نزهة أو بحثاً عن حمايات أو تهريباً للثروات والطاقات... أو للجثث أيضاً. لم يكن انبهاراً أو تعميقاً لعقدة النقص... كان مهاماً وعملاً.. وكان كشفاً واكتشافاً.. لذلك، يؤكد المهدي، وبنفس الرؤية الواضحة: «إن زيارتي للولايات المتحدة تعتبر مثالاً للنشاط الذي تقوم به بلادي من أجل البحث والدراسة، قصد بناء دولة عصرية، على أساس اقتصاد سليم، وعدالة اجتماعية، ومؤسسات ديمقراطية...» لقد كان سؤال: من نحن؟ وماذا نريد؟ واضحاً في ذهن المغاربة ورجال دولته وأدوات تحرره وانعتاقه وازدهاره... إنه الوضوح الذي كان يعني ولا يزال ، لدى المهدي بنبركة ومَن مِن طينته وكل «المغاربة أقوياء النفوس»، خوض معركة البناء والنهوض بالمغرب، على جبهتين متلازمتين: 1- معالجة مخلفات الاستعمار السلبية، وفك الارتباط مع هياكل وبنيات الجمود والتأخر والتبعية والعبودية، و«توجيه الشعب نحو المشاركة في الحكم»، وإعمال طاقاته ومواهبه في «بناء المغرب الجديد»؛ 2 - مجابهة أسباب ومسببات التسرب والاحتلال والاعتماد على الغير وفقدان المغرب والمغاربة، حاكمين ومحكومين، لزمام الأمور والثقة في النفس. وهكذا، كان الصراع، ولا يزال، وفي ظروف أصعب، بين مشروعين ومضمونين للمستقبل... الأول: تحرري، نهضوي وبنَّاء، مُنْشَدٌّ إلى «صنع المستقبل» بالمغاربة ولكل المغاربة، أجيالاً متلاحقة ومقبلة... يتوخى نهضة المغرب واستعادة إشعاعه، على خط التنوير والتقدم، كمدخل للاعتماد على الذات المغربية، وتحقيق الأمن الكامل والشامل و»السيادة الدائمة»... وهو المشروع الذي تقتضي ما يقتضيه في الحكم والثروة والمعرفة والمجال.. الثاني: استعبادي، رجعي وهدام، عامل على «تفويت المستقبل» بغير المغاربة ولغير المغاربة، ورهن مصير الأجيال المقبلة.. يروم تكريس ضعف المغرب وانحطاطه، على طريق تأبيد تبعيته وفقدانه لزمام أموره وسيادته، واستعمال ثرواته وطاقاته ك»احتياطي استراتيجي» للغير.. إنه المشروع الذي توخى تفويت كل شيء، من الثروات إلى القرار. وفي أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، يبقى السؤال هو السؤال، والمهام هي نفس المهام، لكن بتحديات أكبر... فأين مشروعنا؟.. يتبع