أثارني، ليلا، مشهد طفل بأحد أكبر شوارع فاس الكبرى إضاءة. وبخفة الكوبوي، التقطت له صورة.. كان يسير بخطوات هادئة مثل طفل في بداية المشي، وقد حمل بضعة أكياس كلينيكس، وعلبتي علك شونكوم على الأرجح، وراح يتجول بين طاولات المقاهي عارضا بضاعته تحت نظرات تتراوح في مجملها بين الإعجاب والاستغراب. لم يكن هذا الطفل يبكي من جوع، أو يشتكي من مغص برد، بل كان أبيض البشرة مثل ندف ثلج، وصافيا كقطرة حليب، لم يكن سوى «سي محمد»، في دجنبر القادم يكمل خمس شتاءات، لذلك فهو يتابع دراسته بأحد رياض الأطفال بالمدينة الجديدة. المثير في الأمر هو أن أمه من كان وراء فكرة البيع المتجول هاته، هكذا صرح ببراءة «سي محمد» الذي لا أب له، وله أم تنتظر عودته كل مساء كي تفتش جيبيه وتطبع قبلة باردة على خده. رغم أنه قصير القامة مثل قنينة غاز، فقد بات يتشبث في أغطية طاولات المقاهي عيناه متوقدتان كحلم موءود، يرتدي بذلة رياضية تميل إلى البياض، فتغذق عليه براءة وصفاء، لكن عينيه تتحدثان قبل لسانه. عندما يقف بمحاذاة الطاولة بمقهى في الشارع العام، يتحسس بأنفه وبفمه فناجين القهوة وحثالتها مثل فأر بارد، تتلقفه نظرات خارج التصنيف، لكنها متعاطفة رحيمة متوددة متكافلة في الغالب الأعم. لايهم إن بات الوضع الاقتصادي للأسر المغربية في الحضيض، لايهم أيضا أن مكان «سي محمد» في الشارع العام، وليس في الروض حسب سنه، لكن المهم هو كيف سمح أحد المتشردين لنفسه باقتناء علبة كلينكس من عند السي محمد، رغم أن المتشرد لم يسبق له أن استعملها قط في حياته، ثم استدرجه، ورافقه السير إلى اتجاه مجهول! وضعت يدي على قلبي خوفا على مصير السي محمد! أعلم أن اليتم والفقر والحرمان قد ينتج عاهات جنيسة.. «سي محمد» لم يكن لديه صوت يرفعه كي يعلن بضاعته، بالأحرى كي يمتنع عن مرافقة متشرد انتفخت أوداجه بفعل استنشاقه لمادة السيليسيون.. السي محمد سيقبل حتى دون إغراء، كل العيون تلحظه، عيون رواد المقاهي التي تم استنباتها كالفطر على امتداد النور، بما فيها عيون عمداء الشرطة والوكلاء العامين للملك، والقضاة والمحامين ورؤساء الجمعيات وشبكات المجتمع المدني، كلها ترمقه هنا بشارع الحسن الثاني بفاس، لذلك تراه بجسده الفتي عرضة، فكرة ضائعة بين نصوص هؤلاء وجرأة متشردي فاس الذين نبتوا وتخصبوا في ظل سياسة مركب مصالحي انتهازي تنير شارعا رئيسيا، وتظلم مناطق الحزام كلها عنوة. نمنمات رواد المقاهي التي يستعرضها السي محمد صامتا وعاء حيرة وصمت، في أحيان كثيرة، يجلس سي محمد، يتثاءب، يتمطى قليلا من فرط الجولان، يتحسس، يفتح واحدة من علب الشونكوم، يضعها في فمه.. ومثل أي طفل صغير، سرعان مايمتص حلاوتها، ويلقي بها على الأرض وعيناه على الأخرى والناس. لم يكن يتوفر على صندوق أو علبة، كان فقط له جسم فتي، فم كالشهد ولسان وعينين لا تكفان عن طرح سؤال ميت. سي محمد طفل مثله مثل بقية الملايين من أطفال العالم النامي الطافح بالمضاربين والمنعشين العقاريين المستثمرين في بؤس السي محمد والملايين من أمثاله. ويبدو أن للمغرب نصيب الأسد في مثل هذه التقليعات العولمية البئيسة، فلابد أن نصدر بناتنا إلى الخليج، وأولادنا إلى الضفة الأخرى سباحة، ولحانا كي تتفجر في مطاعم أوربا الكافرة، ولابد أن تكون السياحة التي على البال من صنف رخيص، فقط المهنة المدرة للعملة الصعبة، ولاخيار لمغربنا في نمو اقتصاده سوى الرهان على البناء «الرشوائي»، الوسيلة الأكثر ديمقراطية للاغتناء بين مستشارينا وبرلمانيينا، وللمغرب أيضا سبقه وإصراره في الإعلان عن الاختلاف في تحديد القيم وملاءمتها على الطريقة التقليدانية البئيسة، حتى غدا الأمر تنذرا وليس إبداعا. موضوع بائع متجول صغير، لابد أن يجر حكومتنا من أذنيها، فتعيد النظر في برنامجها الاستعجالي، وترجع مؤشر خططها الإستراتيجية في معالجة أوضاع الطفولة إلى موضع الصفر، السلوك الإنساني الراقي للسيدة الوزيرة وجب أن يسائل نفسه في البداية، من أجل تطويق الكارثة والحد من تناميها، وليس حتى درجة الاستفحال، فنبحث عن أسواق خارجية متوسلين الصناديق والنساء البورجوازيات العجائز من أجل تمويل ومعالجة الظاهرة تحت عدسات القنوات التلفزية التي لايشاهدها سوى القائمون عليها. ملحوظة: صورة السي محمد حقيقية لايجوز تعميمها إلا بموافقة الكاتب.