كان قبل ما يزيد على عشرين سنة حينما كنا لازلنا أطفالا.. في موسم الدراسة وكنا نجلس بأمان في أقسامنا وفجأة بدأ يتطاير كل شيء أمامنا وحولنا, تطاير الشرر والناس والكراسي وكراسات الأطفال , وكان الخوف يخيّم على نفوس الأهل والذعر يعترى وجوه الأمهات ,كنا صغارا وكنا نفهم الأشياء كالكبار . والآن الآن ..و في نفس المكان ,في نفس المدينة ,,في نفس الناضور,, وإن كانت الوجوه قد تغيرت, نتجول اليوم عبر شوارع المدينة نشم رائحة الماضي الخفية فيها وعبق الحاضر المنتشر في كل أرجائها نكتشف أن بعض الأشياء من الماضي لا زالت قائمة بل وتضاعفت. شوارع تؤوي نساء وأطفال وشباب تعددت أسباب نزولهم بها ولكن توحدت معاناتهم ..أطفال لا يجدون لأنفسهم مأوى ولا تمتد لهم يد العون وآخرون يبحثون بين النفايات.. صور لأطفال الناضور بين مقاعد الدراسة والبحث عن لقمة العيش هي رائحة البطالة في مدينتي تنتشر في هذا الفضاء من الملل،و طعم المرارة فيها يذوب في حناجر أطفالها وشبابها ونسائها، انتظارات لوعود في إيجاد عمل ذهبت أدراج الرياح .. فرص قليلة أمام الخريجين, واستنزاف لقوى الانتظار والمنتظرين, شباب سرحتهم الجامعات فاستقبلتهم البطالة كل في مدينته. هناك هناك...التقيت صديقا لي..صديق من أيام الجامعة كان كله حيوية ونشاط و"نضال" كان رفيقا بمعنى الكلمة شخصا حماسيا كان...وجدته اليوم إنسانا أخر, خلقت فيه البطالة روحا انهزامية غريبة في مجتمع استفحلت فيه ظاهرة الرشوة والزبونية والمحسوبية. إلتقيته على الرصيف هناك وقبل أن أبادره بالسؤال إياه ...السؤال المعتاد في مثل هذه المواقف بادر هو بالجواب : أنا كالعديد من أقراني الذين يلجئون إلى مزاولة حرف ومهن موسمية كالتي ترتبط بشهر رمضان كبيع الحلويات "الشباكية" و"البغرير"و... أو أخرى كهذه التي أمتهنها الآن..مهن” موسمية” كما يصطلح عليها هنا قلت له: ألا تؤثر هذه وتلك المهن في الشوارع والناس و...؟ قال: إذا قلت لك نعم, فهذا معناه أني ارتكب عملا تخريبيا وإذا قلت لا, فقد أكون كاذبا.. ولكن أرجو أن تسألني عن الدوافع والأسباب, ومتى يتوفر لي البديل فأنا على استعداد لترك هذه المهنة القاسية والخطيرة...ثم أن إقدامنا على هذا العمل ليس لمغريات مادية إنما الحاجة الملحة تدفعك أحيانا لارتكاب الخطأ في سبيل تأمين لقمة العيش. هكذا أجاب صديقي عن جواب لم أسأله... ولكنه يقرأه كل يوم في عيون المارة وهو يفرش بضاعته على أرصفة المدينة بعد أن "فرش" كل "البوليميكات" والمقررات والبحوث والأبحاث في مختلف الجامعات المغربية لينتهي به المطاف إلى شوارع و كورنيشات المدينة عاطل معطل كالكثير من أقرانه فهل تتحمل البطالة حقا ولوحدها هذا الجزء الكبير من المسؤولية في معاناة هؤلاء الشباب مع مهن فرضتها عليهم ظروف الحياة.. وما اختاروها لأنفسهم ؟ وإذا كان شهر الصيف مقترنا عند الكثير من الناس بالاستجمام والراحة والعطلة والبحر والشمس, وإذا كان شهر رمضان الذين أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى مقترن علي الدوام في الأذهان بالصوم، كلازم وملزوم، وسبب ومسبب وشهر للعبادة والروحانية... فإن عددا لا يستهان به من الشباب والأطفال ومنهم صديقي يجدون فيه شهرا يقيهم من البطالة وشر العوز.. فرصة لأطفال وشباب نخرت عضامهم البطالة , شهر للحصول على مال يكفيهم أو يوفرون به مصروف لشهور أخرى. فهو شهر / فرصة لازدهار كثير من المهن الموسمية من قبيل .. بائعي السجائر وحافظات النقود والمفاتيح وبائعي"الكاسكروطات" و"الصوصيت"وباعة الصحف والماء والمرطبات والحلويات والمشروبات والشاي والقهوة، وغسل وتشحيم السيارات في "الهواء الطلق "وخاصة بالقرب من القنوات وبرك الماء وكذالك في شوارع المدينة , في حين يفضل بعض الشباب والأطفال مهنة بيع الأشرطة الدينية تضم محاضرات ودروساً وتلاوات قرآنية فيما البعض يعرض بضاعته على عربة كارو يجرها حصان أو حمار ...أو يدفعها إنسان ومنهم من يفضل الوقوف في مكان ثابت لعرض بضاعته. أناس تعددت أسباب نزولهم إلى الشارع وتوحدت معاناتهم.. تتلقفهم نظرات خارج التصنيف، لكنها متعاطفة رحيمة في الغالب الأكبر!! كل المهن هناك مباحة والقاعدة :أن العاطل عن العمل إنسان عاطل عن الحياة، في جميع أحياء المدينة، على اختلاف مستوياتها، ستجد في أغلب الشوارع أشخاصاً يحملون في يدهم أشياء ما "للبيع"..لاتهم قيمة الأشياء كثيرا, قد تكون بضعة أكياس كلينيكس مثلا أو حتى علبة او علبتي علك شونكوم أو مناديل أو أكياس بلاستيكية أو سجائر "الديطاي" على الأكثر ، أشياء كفيلة لتحول الصبيان من المدارس أو حتى من روض الأطفال إلى الشارع العام حيث يبدأ التجوال بين طاولات المقاهي عارضين لبضاعتهم من أجل طرد شبح البطالة وإعالة ذويهم، باعة فقراء يكدون طوال اليوم والليل من أجل تطلعات بسيطة جدا ومشروعة جدا. مكان يقيهم عوامل الطقس من حر وبرد مميت، ورأس مال من أجل الكفاف وأقل من الكفاف. تعددت الأسباب إذن والهدف واحد و تعددت أوجه أعمال هؤلاء الأطفال والشباب وتنوعت, إذ يواجهك يوميا شباب وأطفال بأعمار مختلفة تقرأ في وجوههم متاعب كبيرة وتحس أن دافعا معيشيا وراء ابتكاراتهم للحصول على وسائل عيش أو مردود يساعدهم على استمرار حياتهم...أحيانا هرباً من نار البطالة ولو بشكل مؤقت، وأحيانا أخرى توفيراً لمتطلبات مادية قد يفرضها غلاء الأسعار أو تفرضها، مصاريف المستلزمات المدرسية. أو مصاريف شهر رمضان أو ما شابه ذلك. و رغم أن بعضا من هذه الممارسات تشكل تشوها لمناظر ما في المجتمع وأحيانا يكون لها تأثيرات سلبية تلحق الأذى بالصالح العام وبالتالي تؤثر في البيئة والمجتمع والإنسان في آن واحد ...و أن انتشار هذه المهن يبرز مدى استفحال البطالة المقنعة بالبلاد، ما يزيد من هيمنة القطاعات غير المُهَيكلة داخل الاقتصاد المغربي، ويعمق من حدة الفقر والحاجة...فإننا حين نحيط بكل الأسباب والدوافع وحين نجد أن معظم هذه المهن تتوحد تحت مفهوم الحاجة الملحة وسبل العيش وتأمين الحياة... وحين نعي أن نسبة البطالة المرتفعة التي لم نعد نعرف سقفها بالتحديد تطول هؤلاء.. ورغم المردود الضعيف لهذه "المهن" إلا أننا نجد أصحابها يسعون إليه وتحت أشعة الشمس المحرقة بصدق ومعاناة، فإننا حين نعرف كل هذه الأشياء عن هؤلاء الناس وعن هذه المهن الغريبة والقاسية بالوقت نفسه نعرف أن ممارسوها يستحقون منا كل العطف والاهتمام . ثم أن هذه المهن الموسمية تلبي حاجيات استهلاكية لكثير من الأسر المعوزة. أما مجالس مدينتنا منها المحلية و البلدية والقروية والإقليمية وهلم جرا.. فهي لا تستحق أكثر من أن تجر من أذنيها لتعيد النظر في كل برامجها، وترجع مؤشر خططها الإستراتيجية في معالجة أوضاع الطفولة والشباب إلى موضع الصفر. أفلا ترى هذه المجالس هذا الازدياد الهائل لهذا العدد من الجائعين وهم يتسابقون أحيانا مع القطط والكلاب الضالة على صناديق القمامة بالليل والنهار بحثا عن استمرار حياتهم ؟ ألا ترى أمواج العاطلين التي تكتسح ربوع المدينة على امتداد السنة ؟ ألا ترى أفواج المشردين و المتسولين الذين تكتظ بهم شوارع ودروب وأسواق المدينة ؟ اسأل سؤالي هذا فقط من باب الخوف من أن يتكرر ما عشناه قبل ما يزيد على عشرين سنة حينما كُنّا لازلنا أطفالا أ و يتكرر جواب صديقي على لسان كل الأطفال والعاطلين والمعطلين: إذا قلت لك: نعم فهذا معناه أني ارتكب عملا تخريبيا وإذا قلت: لا فقد أكون كاذبا.. ولكن أرجو أن تسألني عن:لماذا ؟” والجواب عن أل:لماذا عند هؤلاء يعطى مرة واحدة فقط... والثانية يكون فيها الجواب” فعلا” وليس” قولا” والكل في غنى عن مثل هذه "الأفعال"... على الأقل في الوقت الراهن. ولمسئولينا واسع النظر . ولحكايات المدينة...بقية !