شهدت مختلف أسواق فاس والضواحي، في بحر هذا الأسبوع، ارتفاعا صاروخيا في أثمنة الخضر والفواكه، موازاة مع ارتفاع وتيرة الدعاية السياسية ونحن على مشارف الاستحقاقات. مصادر متعددة عزت ذلك إلى ضعف المنتوج المعروض في الأسواق من جهة، وإلى إضراب شاحنات النقل بين المدن احتجاجا على القوانين التي أتت بها مدونة قانون السير الجديدة التي اقترحتها وزارة النقل والتجهيز، وقوبلت برفض شديد من طرف أكثر من 20 نقابة قطاعية من جهة ثانية. وفيما قارب ثمن الكيلوغرام الواحد من الطماطم هذا اليوم في السوق المركزي 13 درهما، والبطاطس 12 درهما، استقر سعر الكيلوغرام الواحد من البصل في 10 دراهم. أما الجزر والفاصوليا فباتت بعيدة المنال هي الأخرى خاصة بالنسبة للأسر ذات الدخل المحدود أو اللادخل على نحو أدق .فيما اندحر الموز إلى أدنى ثمن له واستقر بين 6 و7 دراهم. عندما سألنا أرملة من عيار رجل عن كيفية تدبيرها لتموين أسرتها في ظل التهاب أسعار الخضر بالسوق القريب من مقر سكناها، تجمدت المسكينة في مكانها، صلت، ثم استغاثت بكل الأولياء والصالحين قبل أن تتحدث بفم مهدوم وشفتين متيبستين «ماذا عساني أن أقول لك ياولدي، ربي عطا الخير، والبشر تيوقفوا على خوه المسلم»، ثم انحنت، وشرعت تزيح التراب العالق فوق ظهر حبيبات البطاطس المتربة. واقع الخضراوات تراوح بين الشح والخصاص المهول، وحقيقة الأسعار في أسواق الأحياء الشعبية أختلت وباتت مترنحة ما بين إضراب الشاحنات وشح المنشأ، إنها صفعة على خد الفقير المحروم والبسيط المعدوم، تركت أثرها لهيبا مشتعلا، وليس شتيمة تقال ثم تنسى بعد حين، أسعار اتقدت مثل نار أجهزت على الأخضر واليابس، كي تطال الأساسي فتلهبه، فأخلت بالتوازنات الأسرية وعصفت بمبدأ الأنواع وبالأشياء في سوق التداول اليومي لغذاء البسطاء، سوق باتت فيه الفواكه فتاة جميلة بلا خطيب، فاكهة الموز تنزل من عليائها إلى المتناول، وباتت الأرخص، الفريز أو الفراولة هو الآخر، اندحر حتى قارب درهمين للكيلو الواحد، وحدها البطاطس وشقيقتها البصل التهمت ما في جيوب الموظفين من ذوي المرتبات الشهرية على تفاوتها، بالأحرى البسطاء من ذوي اللادخل أو الدخل المحدود. حينما توجهنا إلى سيدة تتاجر في الملابس المستعملة بسؤال عن اليتيم الذي يبكي، فلا تسعفه الأقدار، أجابت مثل بركان نشيط «أنتما وا بعد موظفين كتاخذوا المانضة في رأس الشهر، وموالين لحوانيت كيتعاملوا معكم، أما حنا، والله وما حطيت الفرنك حدا خوه، مايعرفك». ثم تضيف بعد تنهيدة تنم عن وصول الداء إلى العظم: «وحتى يباتوا أولادك بالجوع!». في مدخل هذا السوق الشعبي الشبيه بضريح ولي مشهور، والممتلئ عن آخره بالمتسوقين وبالعلب والصناديق الفارغة، تتردد أصوات في ما يشبه الآذان: «الله، شاي الله أمولاي إدريس أمولاي عبد القادر.. اشنو هذا المصيبة البنان ب 6 دراهم والبطاطا ب 10؟».. هذه العبارة سمعتها من فم سيدة تدعى زهرة، رددتها بصوت تريد أن تسمعها لكل الناس «ويلي هذي البصلة ولا الحصلة؟».. ولاتكف عن الترديد إلا حين تشعر أن من حولها ينظر إليها، وأن النساء الواقفات حواليها قد سمعنها بصدق، وحين تحس بأن لاأحد التفت، تدس كلماتها مثل سلحفاة، ثم تنحني وتبتسم في وجه الخضار قائلة، «إيوا خليني نختار».. ثم تضيف في حياء: «9 دراهم وحبيبيات قد ألبي؟».. في مفارقة لاتخلو من طرافة، لم تجد سيدة ماتملأ به قفتها بالنظر إلى الارتفاع الصاروخي لأسعار الخضر، فلجأت إلى ملئها على الآخر بالفراولة قائلة: «هي فرصة.. فالأولاد لم يسبق لهم طوال حياتهم أن شبعوا من هذه الفاكهة الطيبة، ومادام سعرها بدرهمين للكيلو، لماذا ل نشبع منها على الأقل اليوم؟!». تعرف أسواق الخضر المنتشرة في فضاء فاس وضواحيها ازدحاما غير مألوف، لكن أغلب المتسوقين والمتسوقات مستاءون ومتذمرون، فمصروف اليوم، الأسبوع والشهر تضاعف أربع مرات عن سابق عهده، يقول وافد جديد على تربة فاس: «في الوقت الذي كان من المتوقع أن تعرف هذه الخضر أسعارا شعبية في المتناول بالنظر إلى التساقطات الغزيرة التي شهدتها البلاد، حيث امتلأت السدود وفاضت المياه على جنبات الحقول، الشيء الذي يذكر بسنوات البركة، التي كان فيها الخير عميما، وجد المواطن نفسه -كل حسب مستواه- مشدود اليد، دائم السؤال والتنهد، في أتون فوضى وزحمة أسعار تكوي دون سابق إشعار، فما الذي وقع؟ أسعار الكيلو من البطاطس تلك الأكلة الشعبية ارتفع إلى 9 دراهم للكيلو رغم صغر حبيباتها، فيما واصل البصل تألقه في سوق التداول إلى 10 دراهم للكيلو، مع إلغاء مبدإ الانتقاء، الجزر والخضارية هي الأخرى طاولت عنان السماء، وبات «الغذاء» القهر عنوان المرحلة الكبير، ينضاف بذلك إلى قائمة طويلة هدفها الإجهاز على حياة أغلب الناس والفقراء منهم على وجه الخصوص. عن أسباب الغلاء وكيفية تدبير الغذاء، سألنا خضارا ومواطنتين وكان الجواب الآتي: «الإضراب هو الآخر عمق من هوة الأزمة»، يقول بائع خضر: «تصور الموتور لي كان تيجبلي النقلة ب 20 درهما ولاَّتَيْطْلَبْ 30 درهما، بالإضافة إلى نقص الوقود، فأغلب أصحاب هذه الموتورات يبحثون عن الوقود في ظل الخصاص الحاصل في السوق السوداء، وبأثمنة غير معقولة، لابد أن يؤدي الفقير الفاتورة هذه هي الحقيقة». تعليل الغلاء بغرق معظم حقول البطاطس جراء الفيضانات الأخيرة، لم يعد يقنع أحدا، فالكل يرى أن الأسباب تكمن في المضاربات والرغبة في تحقيق الربح السريع على حساب البسطاء -تقول طالبة جامعية- أما الدولة فقد تركت بتجاهلها الحبل على الغارب، فالحرية باتت بالمقلوب، هذا كيشد فوقاش مابغا، وهذاك كيرخف فوقاش مابغا! والضحية هما أحنا.. بطاطس اسبنيول لاتسد الخصاص، ولاتفي بالمطلوب، علينا انتظار قرابة شهر حتى تستوي الأشياء!.. يقول خضار محترف مضيفا: «عام الشتا هذي، عام الخير، مفروض بطاطا بدرهم، ومطيشة بدرهم، والبصل على قفا من يشيل، لكن الذي يحصل الآن وهنا عكس ذلك تماما!». حادة الجبلية أو المرأة المسترجلة التي تعددت ألقابها، والمسمى واحد، سيدة بلا رجل، قدرها منذ أن وطأت أرض فاس مهاجرة بعد أن توفي زوجها في حادث انقلاب شاحنة للنقل السري، أن تشتغل ليل نهار من أجل إعالة خمسة أطفال وفتاة عانس، تقول: «خرجت أولدي عليك يالله، عندي خمسين درهما شديتها ديال السيمانا ديال لحكيم (ابنها ذو الست سنوات يشتغل مساعدا لكوردوني) وقلت مع بالي نجيب خضرة السيمانا، فكرت نربح شوي، وقلت مع بالي حتى يخوى المارشي ونطيح على خضيرة ماهي.. ماهي، بين وبين، فين مامشيت النار، النار أوليدي لم أنتبه إلى أن الخضار لايسمح لك بالعزيل، فهو الذي يقوم بوزن الخضر، ولا ماعجبك حال الله يهنيك، 50 درهما أولدي جبت بها 2 كيلو بطاطا وكيلو بصلة ورابعة ديال اللحم.. حيث غدي تتغدا عندي أختي وراجلها، الحصلة ياولدي وخلاص قولي.. أنتما في الصحافة.. فوقاش غدي ترخاص لينا هذا الخضرة أولدي؟».. هل بلغ إلى علم حكومتنا الموقرة أن أكبر أبناء حادة (إسمه ناصر) سنه لايتجاوز ثمان سنوات، يشتغل في النجارة مقابل 50 درهما كل الأسبوع، وأصغرهم رشيد 6 سنوات، لاأحد من وزرائنا أو الجيران يعرف هل تعشي هؤلاء أم ناموا جياعا؟ نراها مرة كل أسبوع تقريبا حاملة أكياسا سوداء محملة بالبطاطس في الغالب، البطاطا هي الوحيدة القادرة على إسكات بطون أبنائها الجائعين بلا وجع.. تقول الجبلية: «حينما تظلم الدنيا ويشتد حبل القهر، أضع 10 حبات من البطاطا في إناء حتى تهترئ، بعد ذلك، أضع فوقها التوابل، وأقدمها في صحن فيشبع الأبناء، وأحمد الله بكرة وأصيلا، هذا كان زمان! حين كان الكيلو الواحد لايتجاوز درهمين أو 3 في أسوإ الأحوال. أما الآن، فقد وصلت البطاطا إلى 10 دراهم في سوق الحي»..` لكن لاأحد سأل الجبلية كيف تعيش؟ وهل يأكل أبناؤها، ومن المسؤول عن إعالتهم؟ الحاج محمد يستغفر الله مرات عديدة قبل أن يضع ما يحمله جنب الباب، ثم يدير المفتاح في القفل، قبل أن ينادي على فتيحة أكبر بناته، كي تساعده على حمل أكياس البطاطا، لكنه الآن تخلى عن ذلك، فكل ما حمله لن يتعدى كيلو أو نصف كيلو في الغالب. «كان على الدولة أن تستدرك الأمر باستيراد وتوفير الاكتفاء الذاتي من هذه المادة الحيوية بدل أن تترك الأمر بيد المضاربين»، قال أحد المواطنين، وأضاف «فالبلد فيه السيبة ياولدي، والكل يبحث عن شخص يستغفله، والنتيجة خصاص ونقص فادح والموجود غال، ولايفي بالغرض؟». تأثير الغلاء مس كل شيء، بدءا من الخضر إلى وسائل النقل، حيث الكل في سلة واحدة.. فسعر مواد التموين تضاعف هو الآخر بسبب ارتفاع تكلفة النقل، والإضراب زاد الطين بلة، كما أن الخصاص في الوقود شل المحطات، وجعلها تغلق أبوابها. لكن تهافت الأحزاب السياسية وانزلاقاتها، أربك كل الحسابات فيما المسؤولون يتبجحون بغد مشرق في خطبهم المتلفزة التي لا يستمع إليها أحد. جرت العادة أن يتم استيراد النقص تحسبا لكل طارئ، لكن منطق الدولة يبدو أنه ليسير في صالح المواطن البسيط هذه المرة، ويبقى المواطن البسيط المتضرر الأول والأخير من هذا الاضطراب الحاصل في تدبير الشأن المحلي، كما المعيش اليومي للساكنة من غير أن يظهر في الأفق بصيص أمل يعد البسطاء بضمان الحد الأدنى لمستوى عيش كريم.