تنامي كلفة القفة المغربية والأسر البسيطة وضعت كرها بين قوسين، قوس الغلاء وقوس القدرة الشرائية المحدودة، بل المتهالكة أصلا. الخضر ركبت قرونا حادة، لا أحد من بسطاء هذا الشعب بقادر على الاقتراب من «مطيشة» أو«البطاطا»، أكثر من دولار للكيلو (بلغة الاقتصاديين). من ترك عشرة أفواه في براكته أو غرفة مكتراة، كم يلزمه لوجبتي غداء وعشاء. هذا إذا افترضنا أن «الكاميلة» عريانة، أي بدون لحم أو دجاج؟!.. خمنوا معنا جيدا.. كم الوضعية رديئة..! لإعدادنا لهذه الورقة عن القفة بآسفي، كان ضروريا الخروج إلى الأسواق المنبتة على امتداد جغرافية المدينة بأحيائها الفقيرة والهامشية، ولم يكن مطلوبا أن نرحل صوب الأسواق الكبرى، فعلى الأقل، الوضع هناك غير ممسوس نسبيا، اللهم معاناة الموظفين مع المازوط ووسائل النقل المنعدمة بفعل أزمة الإضراب. وجهتنا كانت المدينة القديمة حيث «يرفل» الفقر والبطالة والكثافة السكانية، وحيث المدخول يرتبط باليومي، إذا لم تحرك ذراعيك، لن تحصل على قوت نهارك، الأمر مشابه إلى حد بعيد لوضع المدن العتيقة المسيجة بأسوار التاريخ. شيوخ يتحركون بتثاقل، أرامل ونساء تظهر على سحناتهن آثار زمن لا يرحم، الأسئلة لم تكن مباشرة، بل الأذن و العين اللاقطة هي أساس الاشتغال. «هذي ولات بنان.. البطاطا دارت كرافطة، وابزاف آش غادي نوكلو لولادنا، والله آختي لا بعت غير تليفون ديال الناس باش نحلقو على المصروف». ذاك جزء من حوار ثنائي بين امرأتين هربت عليهما رائحة وملامح الأنوثة، اختلسه الإصغاء المتلصص.. شابان أحدهما يدخن لفافة حشيش ويسب الدين والصباح والخضر والناس أجمعين: «وافين بغاو نمشيو، لا كَلبة، لاماكلة، لاخضرا. المرسى ما فيها حوت، السردين بعداك كنا كندبرو على الكرديلة (كمية معتبرة من السمك).. هذو ماجاهم يديرو الإضراب، غير دابا.. احنا نطيحو في البحر، كولوها انتوما اللي كتقولو بأنكم صحافة، كولو للحكومة ديالكم! تدير شي حاجة، بغيتي غير تسولني، نبيع ليك الهضرة خاصني ماركيز ». أجبته بابتسامة، ومددت يدي له بسيجارة نافحا رأسه بكلام أقوى مما قال: «نحن صحافة وطنية ولم نأت من المريخ، ما يجري عليك، يجري علينا.. ودورنا نقل الوضع بكل وضوح وبلا مساحيق»، ثم انصهرنا وسط الزقاق الضيق بالمدينة القديمة. فالطرح سخون و التوتر يحتاج إلى عود ثقاب بسيط! توقفت مع مرافقي أمام مقهى تقليدية تعودنا أن نلتهم فيها بعض السمك المشوي، عبد الرحيم صاحب المقهى، مقطب الحاجبين، مقلاته فارغة، كراسيه البلاسيتكية لا تحوي أي زبون هذه الظهيرة. نناديه ب «جويليقة» عندما يكون رائقا، و ناغما، ما الخطب؟ هكذا طرحنا السؤال. «وا صاحبي الكراء ما مخلصتوش، الدراري طايح عليهم بالبيض وتردة (فتات الخبز مصبوب عليه مرق بالبصل والطماطم المخلوط والفول والعدس والبهارات).. واش غادي ندير، الواليد طايح في الركنة، خاصو الدوا.. سيمانة ما خدمنا.. لاحوت لاسردين، ياربي ديرشي تاويل ديال الخير ». عبد الرحيم «جويليقة» غاضب هذا الصباح كما لم نتعوده من قبل. وجهتنا كانت السوق الخانز وهو سوق مركزي وتاريخي بآسفي، يشتغل داخله بطريقة غير مهيكلة الخبازة والحواتة، والخضارة والعطارة والشفارة والقمارة.. هو أقرب إلى باب مراكشبالدارالبيضاء. فيه تختزل المدينة بعضا من صورها الحقيقية، لم يعد فيه سوى البوليس والمخازنية يطاردون كروسة أو فراشة. لاأثر فيه لِنعَم الحياة. دلفنا إلى مارشي الكيلاني، نفس التأوهات، الكل يحتج بطريقته على الغلاء الاستثنائي للمواد الأساسية كلها وليس الخضر فقط.. في الحقيقة لم نحتج إلى طرح الأسئلة.. الوضعية تتكلم لوحدها ومظاهرها بارزة للعيان. والسؤال قد يحول طارحه إلى شخص غير مرغوب فيه أو نكتة بشرية متحركة. في تجوالنا التقينا لطيفة ، فتاة أنهكها السهر والمرض وخانها جسدها، ضاحكتها، ردت بابتسامة جامدة، كانت عندما تسكر تصيح بانتشاء: «أنا الق.... التي ستحكم على دين أم... ذات يوم». سألتها: «كيف الحال..؟»، ردت لطيفة: «زعما ما عرفنيش.. انتوما في الاتحاد الاشتراكي كتعرفو كلشي.. الخضرة عيانة، لاوية، غالية.. آش ناكلو الحجر.. اللي كنعيط ليه من الدراري لقدام ولادوك المسؤولين، تيقول أنا في كازا حتى نجي ونشوفك.. الدار ما بغاوش يقسموا الورث، ووالله آخويا لابغيت ندير شي بيعة وشرية، واخا نصور غير 20 درهم باش ناكل أنا وولدي، ها المرض، ها التمبرادة (الفقر المدقع) مشيت غير عند عزيز دبر علي في حمرا (عشرة دراهم) كانت المرسى بعداك، تاناكلو منها السردين، ودابا ناشفة». نفحتها بما تيسر وتركتها تشتم كعادتها.. مع الالتزام بالتوسط لها لدى طبيب بالمستشفى العمومي.. «الناس بالناس والناس بالله»، هكذا يقول المثل المغربي الدارج. الخلاصة أن الكاميلة أصبحت صعبة المنال، واخترنا أن نلتقط الكلام بدون تنميق وسط مسحوقي هذا الشعب، لأن الحقيقة لاتوجد في المدينةالجديدة، فعلى الأقل لصوص الانتخابات يتفطحون في سياراتهم الفارهة ويأكلون ويشربون بالفنادق المصنفة ؟، ويأتون ل «شعب» المدينة القديمة هم الذين لايغادرون المدينةالجديدة بآسفي يوم 12 يونيو، ليقولوا لهم صوتوا علينا. وسيوزعون الأموال والمخدرات والخمور كما هي العادة، ويسرقون الأصوات مستغلين حاجة المقهورين واليائسين والمحبطين والمنحرفين بدون أي حس إنساني أو وطني. قالت لطيفة إنها تهتف لبعض المسؤولين الذي كانت تنشط جلساتهم قبل أن تذبل زهرتها ويذوي شبابها، ولا من مجيب، هي اليوم مثل جويليقة صاحب السمك.. لايجدون ما يقتاتون به. الأسعار ملتهبة والمدخول منعدم! والجيب مثقوب، كيف ستعمل الدولة على تسوية هذه الأوضاع الحقيقية؟ والانتخابات على الأبواب، ماذا ستقول المشاريع الحزبية الصماء للبطن الجائعة والأفواه المفتوحة على السماء؟ كيف ستقوي الدولة الطبقة المتوسطة التي هي عماد أي انتقال ديمقراطي حسب التجارب التاريخية التي سبقتنا، الفقر «داير بابيون» .. ويتعملق وسط الأحياء الهامشية والأماكن المعتمة. ألم يكن الاتحاد الاشتراكي محقا في أدبياته عندما طالب ويطالب بإعادة توزيع الثروة بشكل عادل حتى تتقلص الفوارق الاجتماعية المهولة والتي ستصبح قاتلة مع الأيام؟ هل ارتفاع أسعار الخضر والإضراب هما السبب؟ هل الأمطار التي نزلت هي السبب؟ هل الأزمة العالمية هي السبب؟ لعمري إن السبب الرئيسي لما يقع اليوم هو تطبيق مقولة المغرب النافع وغير النافع، والانتقام السياسي الرسمي التي ووجهت به بعض المناطق منذ الاستقلال إلى اليوم! ترى لو لم يكن الاتحاد الاشتراكي كحزب وحكومة التناوب في الموعد التاريخي قبل عقد تقريبا، ماذا كان سيكون حال المغرب.. كل التوقعات الكارثية ممكنة..