مراكش بين قبور الشو وتجزئة باب إغلي.. أكواخ ومغارات.. فيلات وعمارات.. قادمون من هناك حيث الفقر قد استوطن جيوبهم إلى هنا حيث امتلأت أرصدتهم. قال عبد المولى: " الله إعمرك أمراكش " قال عبد الهادي: " لقد عمروها واستعمروها !! " تأملت مراكش وهي تتمدد طولا وعرضا، تقتحم المسافات وتزحف نحو الهوامش والدور والضيعات.. وفي نفس الآن ارتفع وزن أشخاص معينين وانتفخت بطون ثلة منهم.. عاد عبد المولى ليقول: " بعدما احتلوا العروش انتفخت الكروش" ضحكنا وانصرفنا، لنتوقف أمام بناية قصر البلدية المقابل لعرصة مولاي عبد السلام، وآه من العراصي التي لم يتبق منها إلا الاسم، فالكثير من الأحياء تحمل اسم عرصة.. قال عبد الهادي: " لقد أصلحوا عرصة مولاي عبد السلام، وبرنة هاتف فوتوها لاتصالات المغرب!.." و قال عبد المولى: " نعم، خيرا فعلوا، على الأقل إنها تقي المستضعفين من حرارة الطقس والوقت.. يفرون إلى ظلال أشجارها الوارفة.. و قد يلتجئون للبحث عن مفر عبر الانترنيت المتوفرة بهذه العرصة.. لكنهم عرفوا كيف يحولون عراصي أخرى وجنان وحدائق وواحات إلى صناديق اسمنتية حتي أن مراكش أصبت بالصلع الأخصر وبعدها تاجروا في أحلام الفقراء.." تذكرنا شعارات النقابيين في فاتح ماي وهم يمرون أمام بناية إحدى المؤسسات العقارية الكبرى بشارع محمد الخامس " التواشي والبني راشي والخونة بالخناشي.." ضحكنا مرة أخرى على أحزاننا، فمن تلك البناية ذات النفوذ العقاري تسلل موظف بسيط ليحتل مكانا مهما في إحدى الجماعات التي هندسها التقطيع الانتخابي الشهير لإدريس البصري.. وفي السنوات الست التي قضاها هذا الموظف في مهمته بالجماعة أصبح رصيده البنكي يتجاوز ال20 مليار سنتيم! وتخرج من " الجماعة" مقاولا، لا تعجبوا إنها مراكش.. قال عبد الهادي: " إنه عرف كيف يذبح البقرة ويوزع لحمها على أحشائه.." ما نزال واقفين أمام بناية البلدية نتأمل الحروف النحاسية التي تعتلي بابها وفي نفس الآن يعتليها الصدأ، فلم يعد أحد يلمع هذه الحروف، وإن كان المسؤولون يحاولون تلميع صورهم.. بناية البلدية شهدت ميلاد اتحاد المغرب العربي الذي لم يقدر له أن ينمو بشكل طبيعي، لكنها أيضا صمت آذانها بصوت أحدهم أصبح اليوم مسؤولا مهما في المجلس الجماعي، تذكرناه وهو يتوجه بوقاحته نحو الأستاذ الشاعر عبد الرفيع جواهيري ليقول له " أنت ما مراكشي" وأخذ يزعق محتفيا بأميته: " أنا أمي واللي صوتوا عليا أميين.." وعلى جانبه رئيس إحدى الغرف ونائبه في إحدى المقاطعات، وكأنهما على رقعة شطرنج ليصبحا من كبار التجار في أحلام الفقراء.. وهاهم مهدوا وعبدوا الطريق لأحد أباطرة الحشيش سابقا ليتربع على مقعد هناك في بناية الرباط بعدما أوجدوا له كرسيا في إحدى غرف مراكش.. وحدهم يدركون حلاوة و"بنة" الاحتيال وإسقاط المجلس الجماعي في الأخطاء المدرة للأموال.. لقد حكمت المحكمة على الجماعة بأداء حوالي 5 ملايير لفائدة شخص يعد من نواب العمدة الذين كان لهم دور في ارتكاب الخطاء الذي أدى إلى هذا الحكم. قال عبد المولى: إنهم أذكياء يعرفون كيف يخطئون ليربحوا أموالا. فشعارهم هو: اخطأ لتربح.. لهم القدرة كذلك في أن يكتسبوا مناعة ضد حبسهم حتى و إن قضت المحاكم بذلك.. إنها مراكش وناسها و"رجالها" ممن يبطلون مفعول القضاء.. مئات من السكان تم النصب عليهم وبيعت لهم بقع بعرصة بوكراع، وتشكل دوار عشوائي، ليتبين في الأخير أن رئيس إحدى الغرف متورط في القضية وحكمت المحكمة ضده بل أدانته حبسا، لكن كلام القاضي ذهب سدى.. والفقراء يزدادون فقرا وتحولت الأحلام إلى كوابيس.. وبين الحلم والكابوس تتعدد الألوان وتتزين واجهة مراكش بشتى أنواع الماكياجات.. وتزداد شهرة المدينة، ويأتي المستثمرون.. وتلمع سماء السياحة.. وتنمو مظاهر الفقر أكثر فأكثر، لكن: الله إعمرك آمراكش. مررنا قرب الكوميساريا بجامع الفناء وإلى جانبها مطعم قيل إنه يوزع البركة.. قال عبد الهادي: " إن " بركة" المجلس الجماعي تنزل كلها على هذا المطعم " قلنا له كيف؟ قال: " إن صاحبه من أقرباء عمدة المدينة وبالتالي فجميع ضيوف المجلس الجماعي يوجهون لهذا المطعم وأصبحت ميزانية خاصة من المجلس لهذا المطعم، وعمدتنا حفظه الله يؤمن بفكرة " خيرنا ما يمشي لغيرنا" لذلك فمنذ كان رئيسا للمدينة كان يحرص على أن الصفقات تفوت لشركاته أو لأقاربه.." أي حرص على الذات؟؟! إنه مراكشي ويحب مراكش! لذلك فحتى في تسييره يتميز بتلك " الخفة" و " النكتة".. و من نكته الشهيرة أنه أورد نقطة تفويت أرض لمؤسسة "إيراك"، علما بأن هذه الأخيرة قد بنت الأرض وزينتها بفيلات فوتت لأصحابها بباب إغلي على شارع محمد السادس، فماذا سيناقش الأعضاء وعن أي تفويت يتحدث الرئيس ما دام الأمر قد قضي.. أجلت النقطة منذ سنوات ولم تطرح مرة أخرى. قال عبد المولى: " إنه العمدة، ومن حقه أن يفعل بالمدينة ما يشاء.." قال عبد الهادي: " يجب أن نعرف المسحوق السحري الذي يرفع هذه الثلة من نكرات ثقافية و سياسية واقتصادية إلى مشاهير في المال والأعمال" رد عليه عبد المولى: " إنه مسحوق أنتجه " البصري" واستخدمه فيما أسموه استحقاقات انتخابية حتى أنه استطاع أن يضع أناسا تختلط لديهم الزرواطة بالألف ويتيهون في طرقات الأبجدية.." تذكرنا جميعا كيف صاح أحدهم مرة وقال إنه يفتخر بأميته، ومع ذلك فهو الآن مسؤول غير حضاري لمدينة تعد عاصمة المغرب الحضارية.. قال عبد الهادي: " هل يمكن أن نجرب " المسحوق البصري" لعلنا نصبح "مسؤولين"، على الأقل سندرك الفرق الشاسع بين الألف و الزرواطة.." قلت له: " و مع ذلك فلن تقوم لك قائمة، حيث لابد أن يزكيك أهل الحل والعقد، ويجب أن تأتيهم بشهادة الأمية مصادق عليها وموقعة من طرف مسؤولين أميين.." مراكش بكل إرثها الحضاري ترتكن إلى نفسها.. حتى وإن كانت " قشابتها واسعة" فلأنها كانت تظن أن من يتسلمون مفاتيحها لن تبتلى أياديهم بفتح مخازنها ولن يجردوها من ثيابها ليكشفوا عن عورتها، لكن: الله إعمرك آمراكش تسلل أناس لمراكش من النافذة ليحتلوا مقاعدها الأمامية.. كتبة يزينون " أعمال" مسؤولين تاهت بهم مصالحهم الذاتية ليفترسوا المدينة.. نخبة ارتكنت إلى الصمت ترشف كؤوس مقاهيها وتستهلك حبر الجرائد.. ومراكش تباع وتشترى أمام أعين أصحابها تحت عدة غطاءات تختلف ألوانها وأشكالها من " استثمار" إلى سياحة، إلى جنس، إلى مهرجانات يعلو زعيقها ليخفي أنين المدينة و مع ذلك: ... الله إعمرك أمراكش