«كان الوقت ليلا، حين تسللت إلى غرفة نومي رائحة بخور نفاذة، استغربت الأمر واستبعدته أول وهلة، غير أن قوة الرائحة التي قضت مضجعي، دفعتني إلى الخروج في هدوء قصد تقصي مصدرها علما أن اقرب بيت إلى منزلي يبعد عدة أمتار، ولا يوجد في المنزل غيري رفقة أولادي في ظل غياب زوجي، خرجت من الغرفة لأسمع صوت همس وهمهمات لم أتبين معانيها قادمة من الجهة الخلفية للبيت، أصوات عدة رجال منغمسين في عمل قادتني رائحة البخور سريعا إلى تبين ماهيته، فما تواتر من حكايات العائلة عن «الخزاين» المدفونة في أجزاء من المنزل منذ عشرات السنين كانت دائما حديث ومطمع صائدي الكنوز من داخل المنطقة وخارجها. لملمت شتات نفسي التي تمكن منها الهلع، قصدت أطفالي النائمين، ايقظتهم برفق ثم خرجت من المنزل قاصدة بيت العائلة لا ألوي على شيء، ففظائع صائدي الكنوز كافية لأضحي بالمنزل وما انطوى عليه جوفه حتى لا يتحول طفل من أطفالي إلى قربان إرضاء لسادة «الخزاين»». هكذا تستعيد سيدة من ساكنة أحد دواوير جماعة ايت سعيد بمسكالة لقاءها غير المرتب مع مجموعة من صائدي الكنوز الذين انتهكوا حرمة منزلها ليلا مدفوعين برغبة الظفر بخزينة أو كنز مدفون منذ عشرات السنين في جوف أرضية المنزل الذي كان في ملكية عائلة من أكثر العائلات التي عمرت بالمنطقة ثراء. وما حكاية هذه السيدة بحالة معزولة في منطقة الشياظمة أو حاحا بإقليم الصويرة. ففي صباحات كثيرة، كان يستفيق سكان دوار من الدواوير ليكتشفوا حفرة بحجم صندوق قرب حائط أحد الأولياء، قرب أحد القبور أو مكانه، أو في جزء من أجزاء أحد البيوت. فالإجماع الشعبي على وجود خزائن مدفونة من طرف العائلة الفلانية في فترة من الفترات داخل البيت الذي كانت تسكنه منذ عشرات السنين، وتناسل الروايات والإشاعات، كل ذلك شكل مصدر إلهام وإرشاد لأطماع صائدي الكنوز الذين ثبت تعدد مشاربهم وتخصصاتهم وطرق اشتغالهم وأساليبهم. ففي منطق هؤلاء، حيث عمرت عائلة ثرية في فترة ما، توجد خزائن مدفونة لا تنتظر سوى قناصيها الذي يلجأون إلى أسلوب المراضاة من خلال إرضاء الجني المتملك للكنز عبر تقديم قربان بمواصفات خاصة، أي طفل أو طفلة تتميز عينه وخطوط يده ولسانه بخصوصيات لا تتوفر في غيره، فيكون المطلوب أحيانا جزء من جسم الطفل، كأنفه أو شفته أو أصابعه، وأحيانا أخرى رأسه؛ وبالتالي حياته. كما يلجأ صائدو الكنوز إلى الإكراه من خلال إجبار الجني على التخلي عن ملكية الخزينة التي باتت تحت سيطرته منذ استقرت في جوف الأرض بقرار من مالكيها الأصليين باللجوء إلى طلاسم وتعاويذ وطقوس من نوع خاص. تبدأ العملية حسب مجموعة من الروايات بترصد موقع «الخزنة»، ليتم بعد ذلك جس نبض محيطها الروحي للتحقق من وجود«الْمَلْكْ» وقياس مدى قوته؛ وبالتالي تبين مطالبه أو مفاتيحه. إذا استقر الرأي على المراضاة وضرورة تقديم القربان، تبدأ أولى مراحل عملية مطاردة الكنز، من خلال تمشيط الأرض بحثا عن الطفل ذي المواصفات المطلوبة، ولصائدي الكنز ما يكفي من الصبر والحيلة، بل وحتى الإمكانيات للمضي قدما في طموحاتهم الإجرامية. وما الحالات الكثيرة التي سجلت بمجموعة من الأقاليم إلا ندوبا عميقة في ذاكرة هذا المجتمع الذي لا يمكن أن يستسيغ المنطق الذي يحكم ذبح الأطفال، وتقطيعهم، وتقديمهم قرابين لأحد «الَمْلوكْ»، كما يصعب تصور وجود شبكات بكل ما في الكلمة من معنى، في عديد من المناطق، تتكون من أشخاص تتعدد مشاربهم وتخصصاتهم ومهامهم ومسؤولياتهم، يمتهنون البحث عن «الخزاين»، وتوفير الإمكانيات والتقنيات والغطاء اللازم لتأمين الحصول على ما قر رأي مستكشفي الكنوز على وجوده في مكان بعينه في دوار ما. « أرجو ألا تفتحوا باب بيتكم إذا سمعتم شيئا في ساعة متأخرة من الليل». هكذا خاطب أحد الأشخاص جارته الأرملة ذات مساء محذرا إياه من مغبة الانسياق وراء فضولها ساعة انغماسه في البحث عن بعض ما تحبل به جنبات منزله من «خزاين» دفنت على مدار أجيال من طرف أجداده الذين كانوا من ذوي الثراء بمنطقة الشياظمة. غير أن إنذار هذا الجار كان بمثابة إقرار بكل ما تناسل من حكايات عن أنشطته الليلية رفقة مجموعة من (الفقهاء) الذين يمتهنون التنقيب عن «الخزاين» وتحريرها من قبضة «الَمْلوكْ»، مما كان له انعكاس، حسب رواية جارته، على وضعيته المادية التي عرفت تحولا جذريا في ظرف وجيز. صحيح أن محتويات وقيمة الخزائن تختلف وتتفاوت من حالة لأخرى، فتكون الغنيمة مجزية حينا، ومحبطة أخرى، إلا أن الأكيد أن هذه الزاوية المعتمة من مجتمعنا تحولت -مع مرور الوقت -إلى مجال اجتهاد وإبداع وتوظيف لأحدث التكنولوجيات التي باتت تبسط عملية التحديد الدقيق لمواقع الخزائن. والأكيد أيضا، أن عددا كبيرا من «الخزائن» بإقليم الصويرة لا زالت تتمنع على صائديها الذين لا يكلون، ولا يعدمون حيلا ووسائل للظفر بصيدهم إلا في حالات معينة حيث تنتهي بهم مغامراتهم الليلية شر نهاية. وبقدر ما يستعيد المواطنون معلوماتهم وذكرياتهم علاقة بهذا الموضوع بكثير من الاستهجان والمرارة والأسى، تحضرهم مجموعة من المواقف التي لا تخلو من (الهزل) .بداية بحالة مجموعة فقهاء ساقهم سوء حظهم إلى محاولة الظفر بكنز يقع تحت سطوة «مَلْكْ» قوي، كان ثمن استفزازهم له أن استفاقوا صباحا وقد تفرقوا في الأرض وتقطعت بهم السبل. أما الحالة الثانية، فتخص عاملي بناء في ورش خاص بإحداث إحدى المنشات السياحية على أنقاض بيت عتيق كان يسكنه أحد رموز السلطة في فترة من الفترات، ليتحول بعد عشرات السنين إلى مرفق اجتماعي عمومي. كان الورش في مرحلة تهيئة الأرضية لوضع الأساسات، وأثناء انغماس البناءين بعملية الحفر، وقع بصرهما على قطعة مجوهرات نفيسة لم تغب عن فطنتهما قيمتها المالية، وفي رد فعل أناني فاقه من جاهليته الطمع، امسك كل واحد منهما بتلابيب الأخر مدعيا ملكية القطعة، ليتطور الأمر إلى صراع بآليات الحفر انتهى بهما إلى قسم المستعجلات وقد شج كل منهما رأس الآخر. على إثر ذلك تم منح جميع العاملين في الورش عطلة إلى حين...، وأغلقت منافذ المشروع، لتصب التأويلات في اتجاه ترجيح كفة فرضية البحث من طرف الجهات المعنية عن خزينة مدفونة في موقع الأشغال كانت وبالا على البناءين المسكينين ومصدر إلهام لمخيلة صائدي الكنوز والحالمين بها...