وعادة، القوى الكبرى في أي عصر، المستفيدة من الوضع الدولي القائم، هي التي يهمها إبقاء التوازن كما هو ... وهي التي تعارض قيام قوى كبرى جديدة إلى جانبها... والقوى الكبرى لن تستخدمه هنا بالمعنى العسكري فحسب. ولكن بالمعنى الاقتصادي أيضا، الذي هو الهدف المهم في الحقيقة، ومحور الصراعات الدولية عبر معظم العصور. وما هي سياسة المعاهدات والتحالفات منذ قديم الأزل ؟ إنها إما معاهدة بين طرفين قويين، تمنع الصراع بينهما، حتى لا يستفيد من تناحرهما طرف ثالث، أو تحالف بين دولتين أو أكثر لاحتواء أو اتقاء خطر قوة أخرى تشكل تهديدا مشتركا بالنسبة لأطراف التحالف. وإذا كنت ضربت مثلا سريعا موجزا بانجلترا، فلأنها كانت هي الدولة الأقوى والأعرق والأمهر سياسيا في العالم، خلال الأربعة قرون الماضية تقريبا. فهي النموذج الأكبر. وإن كان قد حل محلها غيرها. في عالم اليوم. وليس هناك ما هو أكثر فعالية في الحيلولة دون قيام قوة جديدة كبيرة، أو في تدميرها، من عملية تقسيمها أو تفكيكها، وهنا أيضا يعرض لأسلوب تعرفه السياسة الدولية جيدا. فالولاياتالمتحدةالأمريكية، القوة الكبرى في عالم اليوم. قامت بمساعدة ظروف كثيرة، أبسطها بعدها البعيد عن أوروبا في عصر لم يكن العلم فيه قد تقدم بعد، بل انها قامت في غفلة من الزمن عن العالم القوي، في وقتها كانت أوروبا مشغولة بحروبها وثوراتها، ولا أحد يتوقع أن تتحول تلك الأرض الفضاء إلى الكيان الضخم. حتى أن الولايات الإثنتي عشر التي بدأت في أمريكا كانت أحيانا تشترى ولاية بأكملها من فرنسا أو من غيرها بما يساوي 2 أو 3 مليون دولار آنذاك. القوة الكبرى الثانية، روسيا القيصرية، وخصوصا عندما بدأت تتحول إلى الإتحاد السوفيتي، جرت هجمات إنجليزية وأمريكية وبولندية كثيرة في محاولة لتفكيكها خلال فوضى الثورة وضعفها. كذلك بالنسبة لنموذج ألمانيا. فالشعب الألماني هو أكبر الشعوب عددا في قلب أوروبا. وله صفات عريقة في القوة والانتظام جعلته دائما قابلا للتفوق ماديا وصناعيا وعسكريا. لذاك ظلت كل دول أوروبا الكبيرة المحيطة تمنع ألمانيا من التوحد وتجعلها دائما دويلات وإمارات صغيرة، ولما تكرر خطر ألمانيا مرتين في الحربين الأولى والثانية، كان الحل، الذي اتفق عليه الجميع، شرقا وغربا هو تقسيم ألمانيا. إذن فالذي نستخلصه من هذه الأمثلة .... أن هناك حقيقتين قديمتين جديدتين، من حقائق السياسة الدولية، وهما مقاومة ظهور أي قوة جديدة من قبل القوى القائمة لأنها تربك التوازن القائم، وتقلل من فعالية القوى القديمة، وأن التقسيم أو الإبقاء على عوامل الانقسام أحد أهم الأسلحة التي تستخدم لتحقيق هذا الغرض في كل زمن ومكان. .... فإذا كانت هذه من القواعد الأساسية في لعبة الأمم..... فلست أدري لماذا نعتبرها غير موجودة بالنسبة لنا، ولماذا لا نتوقع أن يكون مجرد احتمال قيام قوة عربية كبرى وليست قوة مغاربية فحسب فيه ما يثير مقاومة الآخرين ؟ خصوصا وأن الأمر في حالتنا أشد. أي أنه فوق هذه القواعد العامة للعبة السياسة الدولية، هناك أشياء خاصة بنا تجعلنا نتوقع مقاومة أشد. فنحن نقول العالم ضد الوحدة العربية بشكل عام وضد الوحدة بالنسبة للمغرب العربي بشكل خاص. أولا - الولاياتالمتحدةالأمريكية لا يمكن أن نتصور أن تتقبل ببساطة قيام دولة أو كيان أو كتلة قوية متراصة مترابطة ممتدة من المحيط إلى الخليج. وهنا نأتي إلى بعض تلك الصفات الخاصة، سواء بالوحدة العربية أو وحدة المغرب العربي، فبالنسبة للوحدة العربية والتي تجعل القبول بها أصعب. فهذه الرقعة ليست في أي مكان من الأرض. ليست في أمريكا الجنوبية أو في استراليا، إنها في قلب العالم تشرف على الخليج، والمحيط الهندي، وتحكم البحر الأحمر كله، ولها نصف شواطئ البحر الأبيض المتوسط وتطل شواطئها على المحيط الأطلنتيكي، والأكثر أهمية هو مخزون عالمي لأهم سلعة استراتيجية في العالم وهي البترول. أليس التعامل مع هذه الدول فرادى أسهل مائة مرة من التعامل معها ككل واحد ؟ ..... فإذا أرادت روسيا طريقا إلى البحار الدافئة فهي لابد أن تفكر فيها، وإذا أرادت أمريكا أن تحمي طرق تجارتها الدولية وتجارة معسكر الغرب والشريان الذي يمد إسرائيل بالحياة فلابد أن تفكر فيها. وبالنسبة للطرفين فالتفكير في هذا الكيان موحدا هو بالتأكيد فكرة مرعبة وكابوس مزعج. من هنا نستخلص أن الحرص على عدم وحدة مغاربية هو الحرص نفسه على عدم القبول بوحدة عربية. وهناك تقسيم آخر يمكن أن تصنف به الدول، فهناك مثلا الدول الإفريقية، أو بالتحديد الحزام الإفريقي الذي يلي الشمال العربي الإفريقي مباشرة. هنا نجد منطقة مختلطة، مناطق مسلمة ومناطق مسيحية ومناطق وثنية. مناطق يجري في عروق أهلها الدم العربي بوضوح، ومناطق زنجية خالصة، فتلك كانت نقطة الالتقاء ومعبر الهجرة والتجارة والتعامل أيام المد المغاربي. وفي تلك المناطق يوجد حب للمغاربة الذين نقلوا لهم تاريخيا أنوار الحضارة، وفيه كراهية مصدرها ما يقال عن تجارة الرقيق، وهي نقطة حاول الاستعمار الأوروبي أن يغذيها هناك، حتى يقيم حاجزا بيننا وبينهم. وإن كانت مساعدة المغاربيين لحركات التحرر الإفريقي في القرن العشرين قد أزالت الكثير من أثر تلك التركة، إلا أن بعضها قائم. وهناك جار آخر، ذو أهمية خاصة، هو جارنا الشمالي، الذي يفصل بيننا وبينه البحر الأبيض المتوسط أو بالأحرى يجمع بيننا وبينه البحر الأبيض وهو أوروبا. إن العبرة العامة، أن «أوروبا قوية» كانت تحب أن ترى دائما عالما عربيا ضعيفا ومغربا عربيا ممزقا. والظروف السياسية والاقتصادية تغيرت بالطبع، ولكن الرواسب لا تموت بسهولة. وقد يهم الأوربيين أسواقنا، ولكن قد تزعجهم وحدتنا على وجه اليقين. ... وبعد، فإنني أقول هذا لا لبث اليأس من قضية الوحدة، ولكن أنبه إلى أننا حين نفكر في الوحدة، بأي شكل وعلى أي مستوى، فنحن نفكر في مشروع من أخطر مشروعات التاريخ كله ! وعلى هذا المستوى يجب أن يكون التفكير فيه.... والنضال من أجله. انتهى