إلى نزيهة، لما فتحت عيني، ابتسمت لي، وكانت الحياة.. كنت سأستهل هذه الشهادة بعبارة: « في مثل هذا اليوم من 12 يناير 2008...»، لكنني أدركت أن التعبير غير لائق، لسبب هو أنني في هذا اليوم، بدءا من الساعة الخامسة والنصف صباحا، غبت عن الحياة لأدخل في غيبوبة دامت أسبوعين على إثر عملية زرع للكبد، تخللتها مضاعفات كادت تودي بحياتي. بدأت الحكاية يوم قيد اسمي في لائحة « البنك الوطني الفرنسي للتبرع بالأعضاء » حيث « رشحت » لتلقي كبد، بعد أن تكبد هذا العضو خسائر جسيمة مصدرها العشق ( أليس الكبد بؤرة العشق والمحبة في ثقافتنا؟ ) ومعاقرة ديونيسوس أو ما نطلق عليه بلغة فجة: « بولبادر». بعد أن وضعت توقيعي على الوثائق الطبية التي قبلت بموجبها جميع الشروط التي تضمنتها المعاهدة بيني وبين البنك الوطني، وبخاصة تبرئة ساحة المستشفى الذي ستجرى به العملية، عدت إلى البيت لتحرير وصية مقتضبة كنت سأتركها إلى ابنتي أطالب فيها بدفني في خريبكة، مدينتي الأم التي غادرتها في السابعة عشرة، ولم أزرها إلا على فترات متباعدة، بعد أن توفي الوالدان من دون أن أحضر مراسم دفنهما. كانت رغبتي أن أدفن في مقبرة «ابن صالح» التي تتصادى في مجالها أصوات نشاز من نهيق الحمير، صفير قطارات الفوسفات، ترانيم مجودي القرآن... كما حضرتني فكرة أخرى: أن أدفن في أحد المربعات المخصصة للمسلمين في بعض المقابر الفرنسية، أو تحرق جثتي وينثر رمادها على نهر السين، مع العلم أن هاتين العمليتين مكلفتين، إذ تبلغ مراسم الدفن 3700 أورو، فيما يصل ثمن حرق الجثة مع نثر رمادها 2500 أورو. لم لا ؟ أليست فرنسا بلدي الثاني، عرفت فيه الانكسار، المجد العابر، العشق وخيبته، انطفاء مصابيح الصباح وترنح مشيتي في أزقة فارغة، صخب النقاشات الواهية... وفي الأخير وقع اختياري على خريبكة. بعد تسجيلي على القائمة، عشت لمدة 5 أشهر أترقب أن يعثر على كبد ينسجم وفصيلتي الخلوية. إذ بين الفترة التي يسجل بها المرشح لعملية الزرع وفترة العثور على عضو ما، قد ينقضي زمن يتناسل على إيقاع الأبدية، تخر فيه المعنويات، ويضمر الجسم.. في قرارتي، تأكدت لي قناعة اختفائي الوشيك. حينها بدأت في التعامل بحكمة مع الفكرة ولمست لأول مرة لحم الموت، أي ماديته، مثلما كانت تلمسه والدتي حين دخولها إلى جانب نسوة آخريات في الندبة الجماعية من حول تابوث أحد الأقرباء وهن يرددن شعرا وعلى إيقاع خدش الخدود، جسامة الخسارة. يشاطرن الميت موته. ولما كنت أطوف بنظري من حول الكتب الموزعة على جنبات الصالون، أقول في قرارتي أنها ستبقى حية بعد اختفائي وفي هذا عزاء جميل. من بين التوصيات التي أبلغتني بها المصلحة الطبية: أن لا أغلق الهاتف، النقال منه أو التابث، بحيث يمكن الاتصال بي في أية لحظة لما يتم العثور على مانح أو واهب لكبد. بعدها يجب الحضور إلى المستشفى في أجل لا يتعدى الأربع ساعات التي تلي المكالمة وإلا فسد العضو وتعذرت عملية الزرع. في الثاني عشر من يناير2008، وكان يوم سبت، كانت أجواء ما بعد أعياد السنة الميلادية الجديدة في طور التلاشي. كان الطقس كعادته في مثل هذه السنة باردا. فضلت البقاء في البيت بدل مصاحبة رفيقتي إلى حفل زفاف أحد الأقرباء. تجولت على بعض القنوات العالمية قبل أن أنغمس في قراءة مذكرة إرنيستو ساباتو « قبل النهاية ». وفي حدود العاشرة والنصف رن الهاتف النقال. لما أجبت خاطبني صوت رخيم: « مساء الخير. أنا الطبيب الجراح. أناديك من مستشفى بوجون. أرجوك أن تتقدم حالا إلى المستشفى في أجل لا يتعدى الأربع ساعات. عثرنا على كبد بمواصفات تطابقك... خذ بعض الأغراض..نحن في انتظارك ». بقيت في حالة ذهول قرابة الخمس دقائق، قبل ان أدس بعض الأغراض في حقيبة رياضية. بعثت برسائل « إس. إم. إس » إلى ابنتي، إلى رفيقتي وبعض الأصدقاء لأخبرهم بالنبأ. في القطار، تصفحت جيدا الوجوه المجهولة التي تصعد أو تنزل من المحطات التي كان يعبرها القطار، وفي قرارتي أنني أراها لأول ولآخر مرة. وصلت المستشفى لأضيع في أقسامه المترامية ، قبل ان تدلني إحدى الممرضات على قسم الجراحة. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة والنصف لما وصلت إلى سكرتارية القسم. انتظرت عشرة دقائق قبل أن يتقدم مني طبيب مادا يديه و في نبرة حرجة خاطبني: « آسف..الكبد الذي عثر عليه يوافق شخصا آخر ! آسف مرة اخرى..أدخل بيتك لترتاح..». ثم مد لي يده مودعا. وأنا في طريق العودة، تزاحمت في ذهني مشاعر الخيبة والرضى وقلت في قرارتي: « إلى المرة القادمة..». أرسلت رسائل SMS لإلغاء الرسائل السابقة. في الصالون، رميت بملابسي قبل أن اندس في برودة الفراش. ما أن أغمضت عيني حتى أخذتني غفوة خفيفة أفقت منها هلعا على إثر الرنين المتلاحق للهاتف. أخذت السماعة ليتناهى إلى مسمعي في الطرف الآخر نفس صوت الطبيب الجراح. في جملة مقتضبة لخص لي الوضع: « عثرنا على مانح.. نحن في انتظارك..». وبما أنني غازلت الموت سابقا، نميت تجاه الخبر، على الرغم من فداحته، ما يشبه اللامبالاة. مثل هذه المفاجئات تحصل فقط في التراجيديا الإغريقية. وصلت المستشفى لأقصد رأسا قسم الجراحة. استقبلني الطبيب بابتسامة تقول دلالتها: « أنت إنسان طالع السعد !». وأي سعد عرفته فيما بعد !!.. أدخلت غرفة ليعرض علي الاغتسال بمسحوق خاص، ثم حلق كل ما له علاقة بالشعر من منبث البطن إلى الأسفل. ارتديت بعدها حوفا أو منشفة من البلاستيك وتمددت على السرير. جاءت الممرضة لتمتص عينة محترمة من الدم. أخذت مقاييس الوزن، الحرارة، الضغط الدموي الخ.. ولتغرس في شرايين اليدين إبرا موصولة بأنابيب وقوارير بلاستيك من السيروم. بعدها علقت حركة الزمن إلى أن انفتح الباب على ممرض بقامة فارهة ليخاطبني : « هيا بنا إلى النزهة !! ». شاعرية هذه العبارة تلطف ما يطلق عليه البعض الآخر « الذهاب إلى صالة المجزرة». دفع بالسرير الآلي في اتجاه صالة العمليات، لأجدني تحت أضواء كشاف قوي ذكرني بضوء من هو في وضع استنطاق. بقيت في صالة باردة، إن لم أقل مثلجة تحت رحمة الضوء الكاشف إلى أن اندفع الباب على مجموعة أطباء تعلو أفواههم أقنعة وبأيديهم قفازات مطاطية. لما تقدم مني الطبيب المنوم، ألقيت نظرة خاطفة إلى الساعة الحائطية التي كانت تشير إلى الخامسة والنصف صباحا. ابتسم لي الطبيب قبل أن يخاطبني: « لما أدفع بمحتوى المحقنة ستشعر بحرارة خفيفة تدب في جسمك قبل أن تنام..هل أنت جاهز؟ ». ركزت عيني في ناظره إلى أن تثاقلت جفوني واستسلمت إلى نوم كان أقرب إلى الموت، إذ دامت العملية 12ساعة، دخلت على إثرها في غيبوبة عميقة لمدة 15 يوما. ما أن أفقت حتى دخلت في هذيان حاد تحت مفعول المورفين وكوكتيل آخر من المخدرات. انتفضت أشباح هلوسية، لا زلت أتذكر أطيافها إلى اليوم. ومن بين ما شاهدت كارلا بروني ساركوزي !! أخبرت الممرضات أنها ستصل إلى المستشفى لتأخذني إلى عشاء بأحد المطاعم الشهيرة بمراكش !! .. كما وجدتني ضحية مؤامرة يدبرها في الخفاء وبمساعدة بعض الأطباء، أديب تونسي معروف بعدائه للإسلام. لما أخبرت رفيقتي بالأمر، خافت على صحتي الذهنية، فيما أعلن البعض، من بين ما أذاعوا، قرب اختفائي. لمدة خمسة أشهر أتت الممرضة كل صباح على الساعة السادسة لامتصاص دمي وإجراء الفحوصات الروتينية قبل زيارة الطبيب. وهكذا أجريت كل العمليات الخيالية التي لم تخطر يوما على بالي، أنا الذي لم يدخل المستشفى يوما، والذي كان يجهل إلى عهد قريب فصيلته الدموية !!.. غادرت المستشفى بمخلفات ثقيلة بدت على كل حركات الجسد. على المشي والنطق والتنفس، الخ... بعد عملية زرع الكبد الذي تمت بنجاح، حدث لي ما يسمى باندعاق البطن، بحيث تراخت أعضاؤه ووجب تمتينها. وعليه أجريت لي في مستهل الشهر السادس بعد العملية الأولى عملية ثانية لتمتين هذه الأعضاء. عدت مرة أخرى إلى المستشفى الذي استأنست ألفته، روائحه، أصواته، مزاجاته. تآلف جسدي القصيف مع جسده الآلي. احتضنني هذه المرة لأسبوعين فقط، وبدأت فيما بعد في استرجاع - وبالتدريج - عافيتي. ركبت القطار، الطائرة، السيارة، وقريبا سأخيط أزقة باريس على الدراجة الهوائية تحت البرد ولربما تحت الثلج، لأحس بجسدي وهو يعتمل بحياة كائن آخر مات ولا أعرفه، لكنني سأرعاه في حنان ومحبة.