في حيثيات القرار الصادر عن الجنائية الدولية، وما يثبت قانونًا بأن الهجمات العدوانية على غزة كانت شاملة وممنهجة، تلتها وتفرعت عنها عمليات قتل ضد المدنيين واضطهادهم والتنكيل بهم وردمهم تحت الأنقاض. علاوة على توصيف يفيد بأن الجرائم ضد الإنسانية، المعرّفة بقوة القانون الدولي، يعيشها الفلسطينيون في أجسادهم وأرواحهم، ومن خلال تجويعهم وحرمانهم من الماء والكهرباء والوقود والأدوية، مع ما صاحب ذلك ويصاحبه من حرمان الأطباء الفلسطينيين من أداء مهامهم واغتيالهم، وإجبارهم على عمليات في ظروف لا إنسانية، بدون تخدير، وأحيانًا لفائدة الأطفال الصغار والرضع. ولعل أول ما يجب تسجيله في ردود الفعل الدولية، أنه حتى بعض العواصم الغربية، التي قدمت السلاح لحكومة اليمين الإسرائيلي، لم تتجرأ أن تقدم التغطية القانونية أو القضائية لها، وإن نزعت في لحظات أولى سابقة للقرار نحو تمكين الجيش المعتدي من المظلة الأخلاقية لتبرير ما وقع باسم الدفاع عن النفس. وهي نفسها لم تتجرأ على أن تعتبر القرار خاطئًا أو انتقائيًا، وتغطي بقبة أخلاقية على جرائم فاضحة. ولنا مثال في فرنسا وهولندا، اللتين أعلنتا دعما لا مشروطا للحرب في أيامها الأولى… -بالرغم من القوة التاريخية لقرار مثل هذا، فإنه محاط بالعديد من الأوضاع المفارقة والمتباينة، منها: 1-قد يكون العالم، بهذا القرار، قد ضيّق الخناق على نتنياهو ووزيره في الدفاع وقلّص من هامش تحركاتهما دوليا. لكن المفارقة الأولى تكمن في أن المحكمة أصدرت قرارا قويا لا تملك قوة لتنفيذه، وهي لا تملك قوة بوليس للقيام بذلك. وتظل رهينة الإرادة الحرة للدول الأعضاء في المحكمة الموقّعة على اتفاقية روما. 2-كل قادة الدول الغربية امتثلوا لصوت القضاء، الذي يعبر عن مشروعية إنسانية في معاقبة المتهمين بجرائم الحرب والتقتيل. والجدير بالانتباه أن كل الذين وضعوا سرديات لأنفسهم ولشعوبهم، من هؤلاء القادة دول الاتحاد الأوروبي وكندا وبريطانيا، وساسة ورجال إعلام اختاروا الدفاع عن تل أبيب باعتبارها تمارس حق الدفاع عن النفس أعلنوا، في الغالب المطلق، أنهم سيمتثلون لقرار المحكمة. وخلاصة ما سبق ذكره كالتالي: التسليم بالقرار شيء، ولكن تنفيذه شيء آخر. ومنع المعنيين بالقرار من التنقل إلى أي دولة موقّعة على الانضمام إلى الجنائية الدولية لا يعني بالضرورة تنفيذ الاعتقال في حالة وصولهم إلى تراب الدولة المعنية. وكل دولة تقدّر ما إذا كانت ستأخذ بتنفيذه أم لا. والمفارقة التي يمكن تسجيلها هنا هي أن تجد الدول نفسها أمام تناقض ذاتي أخلاقي وقانوني وسياسي بين التزامها بقرار محكمة دولية انضمت إليها بمحض إرادتها، وبين عدم تنفيذ قراراتها. 3- مفارقة أخرى تتعلق بالدول غير المنضوية، وفيها من تساند القرار سياسيا، ومنها الصين والهند وروسيا نفسها، التي يوجد رئيسها تحت طائلة المتابعة الدولية. فهل تطبق قرارا ليست ملزمة به قانونا؟ إلى ذلك، وجدت دول أخرى، منها إيطاليا، نفسها في موقف مفارق بدوره: إدانة القرار عند صدوره، والإعلان عن الالتزام به وتنفيذه فوق ترابها. 4-ومع التأكيد الشديد على القاعدة الفقهية التي تقول »لا مقارنة مع وجود الفارق«، نسجل أن النقاش نفسه حول القرار يقف عند شطر مهم من مفارقة كبيرة أخرى، وهي كون نفس الأمر بالاعتقال كان يهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار (رحمهما الله)، وكانا بدورهما موضوع مرافعة المدعي العام بتهمة الجريمة والحرب، كما يشمل محمد ضيف، القائد العسكري للحركة. ولقد سحب المدعي العام اسمي السنوار وهنية بسبب اغتيالهما، وبقي القرار قائما بحق محمد الضيف، بالرغم من ادعاء إسرائيل اغتياله بدون تقديم حجة على ذلك. أولا: المحكمة انخرطت في منطق المدعي العام، أي عدم التمييز بين المتهمين، فلسطينيين كانوا أو إسرائيليين. ثانيًا: نحن، في هذه النقطة وإلى حد الساعة، لم نعلّق على هذا الجزء الخاص بالمقاومة. ومنّا من آمن ببعض القرار وسكت عن بعض. ولكن الواقع القائم هو أنه يستوجب بعض التفكير والفهم. ثالثا: القرار بات مرفوضا من الطرفين: المساندين لإسرائيل أو المساندين للمقاومة الفلسطينية. المساندون لإسرائيل يقولون إنه يساوي بين قادة منتخبين ديمقراطيا وبين زعماء منظمات تصنّفها الدول الغربية في مصاف الإرهاب. وفي حين نرى، من ضفتنا وقناعتنا العربية الإسلامية المساندة للحق في المقاومة، أنه قرار يساوي بين الضحية والجلاد، بين جيش احتلال وقائده وبين شعب محتل يقاوم. ولعل الوضع اليوم يدعونا إلى الرجوع إلى تفكير السلطة الفلسطينية نفسها وفريقها القانوني، كما ذكرنا البارحة. ومن ذلك أن فلسطين حصلت على صفة دولة ملاحظ غير عضو في الأممالمتحدة، مما فتح لها أبواب نحو 63 منظمة متعددة الأطراف واتفاقية، من بينها الجنائية الدولية. ولما اندلعت الحرب في غزة عام 2014، ترددت السلطة في توقيع اتفاقية الانضمام إلى المحكمة، بعد تعليق الملف لعشرة أشهر تسهيلا لمهمة جون كيري، مبعوث باراك أوباما، وقتها لشؤون السلام. وكانت السلطة تخشى أن تُستعمل المحكمة في إدانة حماس، ولهذا اشترطت موافقة الفصائل كلها للتوقيع على الاتفاقية. واحتفظت فلسطين بهذه الورقة للتلويح بها، إيمانا منها وعن صواب بأن الأهم هو توقيع اتفاقية سلام مع الاحتلال عوض اتفاقية انضمام إلى المحكمة الدولية وحدها. وبعد رفض طلب عضوية الدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة، لم يبقَ للسلطة أدنى مبرر للتردد، ولاسيما بعد موافقة حماس باعتبارها ذلك عربون احترام للقانون الدولي في مقاومتها المسلحة. سيكون من المبكي المضحك أن ننقل الصراع داخل المحكمة إلى الشارع العربي، بأي مبادرة كانت، وشحن المجتمعات العربية الإسلامية والدول المحبة للحرية بمفارقات يقوم عليها النظام الدولي الجديد، في حين ننسى الحرب، سبب التراجيديا الجديدة. وختاما، فإن المفارقات المسجلة يجب ألا تنسينا الجوهر، وهو وقف الحرب كجريمة ضد الإنسانية وحرب ضد شعب أعزل من المدنيين. وهذا هو الهدف الأسمى الذي يُرجى من أي موقف دولي، في حين يبقى قيام الدولة كحل نهائي لنزاع يطول وادي الدماء فيه.