ما بين دول الشمال الأوروبي والصحراء، علاقات تستحق أن تكون خلفية لتفكير مغاير في مآلات القضية الوطنية. وقد قيل المهم في ما يتعلق بالاختراق المغربي، والذي توج بإعلان فنلندا، دولة الحياد الدولي المعروفة، بأنها ترى في الحكم الذاتي "أساسا جيدا" للحل في قضية الوحدة الترابية… لم تقل فنلندا ما قالته فرنسا، باعتبار المقترح المغربي هو "الأساس الوحيد"، ولا كما قالت إسبانيا، باعتبارهما دولتين استعماريتين سابقتين. إذ لم تعرف الحكم الذاتي بكونه "الأساس " والقاعدة الوحيدة بل كان تعريف فنلندا تعريفا بالرَّسم كما يقال، من خلال نعته بالجيد، هو تعريف بالصفة.. ليس له منافس فيها . وهذا الموقف الفنلندي يحيلنا على متغيرات أساسية: 1-أولها أن الدولة المعنية به تنتمي إلى دائرة جيوسياسية تحولت في مراحل من مراحل قضيتنا إلى مجال حيوي، بل يمكن المغامرة بالقول إنها صارت مركز الثقل الجديد بعد أن تراجعات نشاطات الانفصاليين، لا سيما في تحريك الوتر الإنساني والحقوقي، محل جنوب أوروبا، ولاسيما إسبانيا وجوارها الفرنسي والمتوسطي.. وبتعزيز موقع المغرب وموقفه تكون أولى التغيرات القوية قد حدثت، بعد التغير النسبي المحدود للغاية الذي حصل مع السويد في الأزمة التي نتذكرها، والتي تحركت فيها قوى اليسار من أجل أن تخاطب العقل السياسي السويدي الذي ما زال يحمل الكثير من القيم، المتطرفة أحيانا، لهذا التيار العالمي… 2- فنلندا، هي بدورها، الدولة الأوروبية السابعة عشرة، التي تمسها الحيوية المغربية داخل الاتحاد الأوروبي، ولم يتبق، بعد خروج بريطانيا من التكتل القاري، سوى تسع دول على المغرب أن يشتغل عليها، منها أربع تقع في مجال التأثير الفنلندي، المتبادل .. ومن المنطقي أن يفكر المغرب في الحصول على موقف قاري أوروبي موحد، علني ورسمي، يدعم الحكم الذاتي كحل وحيد وأوحد للنزاع الإقليمي، بما يعزز الديناميات الدولية ويجعل من الجوار والقرب الجيوسياسي مع المنطقة عنصر قوة ودفع أمام الرأي العام الدولي وفي عواصم القرار الدولي… ومما يعزز هذا المنحى في التحليل كون الدول الأساسية، مدريد وباريس وبرلين وروما وبروكسل، العاصمة البلجيكية والعاصمة الأوروبية، تنحو نحو دعم الحكم الذاتي من أجل توطيد الاستقرار على بوابات أوروبا، عوض فتح المجال لخرائط قابلة للاشتعال مثلما تقترح ذلك الدولة الخصم للمغرب وذراعها الانفصالي.. 3- فنلندا تقع حيث يتحدد اليوم جزء من مستقبل العلاقات الدولية في الشمال الأوروبي، كدائرة قارية تعرف اليوم حربا أوروبية جديدة، بعد أن كان العالم قد اعتقد بأن القارة لن تقبل بحرب كبرى فوق ترابها. هاته المنطقة التي تتقاطبها روسيا والحلف الأطلسي، منطقة يمتحن فيها النظام العالمي المتعدد الأقطاب، نفسه. وعلى هذا الأساس يكون دخول المنطقة من طرف المغرب وقدرته على الحفاظ على مصالحه مع أوروبا والدول الإسكندنافية من جهة وروسيا من جهة أخرى، دلالة على قراءة جيدة للنظام المتعدد الأقطاب، والدليل على حسن التحرك في رقعة شطرنج دولية… تتيح هوامش واسعة للمناورة… 4- فنلندا أيضا تنتمي إلى منطقة بدت في أوقات عديدة كما لو كانت دائرة مغلقة على مواقف "نبيلة" مبنية على نزعة حقوقية وأخلاقية تتبنى أي دعوة متعلقة بالدفاع عن تقرير المصير ولها حساسية للخطابات التقدمية والمناهضة للاستعمار، بدون تمحيص في الكثير من الأحيان، والمهم أنها كانت دوما ساحة لتحركات الفصائل الثورية والحركات المناهضة للنظام العالمي الجديد، وإن لم تكن الدول مناهضة له، فلها موقف متفهم في الكثير من الأحيان.. 5- ولعل الموقف الفنلندي ينبني على تدبير مؤسساتي، يحترم المسارات المرتبطة بصناعة القرار الملزم للدولة أكثر من الزاميته للحكومة أو أغلبيتها، وهو ما يتجلي من خلال التدبير التشريعي التنفيذي المشترك في القرار، مما يميز المسطرة الفنلندية، عوض مساطر أخرى تعطي القرار لرئيس الجهورية كما في فرنسا أو رئيس الحكومة كما في إسبانيا.. ومن مميزات العمل في الدول الإسكندنافية أنها تعمل تحت تأثير متبادل يصل حد التنسيق والرئاسات الدورية للتمثيليات الديبلوماسية، وذلك ما يحدث مثلا هنا في المغرب حيث أن دول الشمال تعمل دورية تمثيلية بعضها في بلادنا، بحيث تتولى كل دولة الحديث باسم غيرها من الدول الخمس، ويكون المخاطب تارة سويديا وتارة دنماركيا أو فنلنديا وهكذا.. 6 فنلندا منذ أبريل 2023 محكومة بموقعها في الحلف الأطلسي،( الناتو) الذي يربطه بالمغرب وضع شراكة خاصة للغاية، وتوضح هذا الوضع منذ قمة مدريد في مارس الماضي، وتزامن ذلك مع تجديد العقيدة الجيوستراتيجية للناتو التي تتغير كل عقد من الزمن، وهو معطى لا يغيب عند أي تحليل … ختاما، لقد حصل تحول في موقف دولة من منطقة هي نفسها موضوع تحوّل جيوستراتيجي يُدْخلها منعطفا يمس توجهها الدولي، وطموحاتها القارية، ومكانتها في الهندسة الأمنية، أوروبيا ودوليا، والمغرب كان ينتظرها في المنعطف!