عملت الرواية القصيرة جدا من خلال عمرها القصير نسبيا مع التجربة الطويلة للرواية التقليدية، عبر بنيتها وهياكلها السردية المبتكرة غير التقليدية من خلال بوابة التجريب، في اللجوء نحو الإيجاز والاختصار، والتركيز على حبكة واحدية، واجتناب التفاصيل الزائدة، والتخلص من الشخصيات الهامشية، وبهذا التملص تكون الرواية القصيرة جدا قد خلصت نفسها من مطلب تجذير الحكي، أو البحث عن المرجعيات الوجودية والتاريخية للشخصيات، ووضعت القاريء في لجة المشاركة من حيث لا يدري في اللعبة السردية، في تنمية الحدث ومتابعة الشخصية المهيمنة بتجربة واعية تتقبل وتشارك في الإقتراحات السردية. إن التجريب في الرواية الفلاشية يمنح القاريء هذه الفسحة من المشاركة الوجدانية والنقدية، عبر لغة روائية واضحة ومبسطة ومألوفة تستبطن الإيحاء والرمزية وشفيف المخاتلة السردية، لها القدرة على فضاء المشاركة والتتميم، ذلك أن القاريء هو الفاعل الأخير في المنجز الجمالي، فهو الاولى في المشاركة وفاعلية التتميم الجمالي، قد يشكل البعض على الرواية القصيرة جدا كونها تمارس تمردا إجناسيا على الكتابة السردية فهي تخاتل في لعبة حكائية بين الرواية الطويلة التقليدية والقصة القصيرة ، وتأخذ من بنيتهن الكثير ، فهي تمارس تشظي البنية والدلالة وتعتيم الشخصية عبر منح السرد لشخصية طيفية وامضة غير محددة المعالم ولامتجذرة المشاعر والأحاسيس، وهذا ما يفقد الحكاية طبيعة التفاعل العاطفي والوجدانية مع القاريء، فضلا عن تضحية الرواية القصيرة جدا بالعديد من جماليات السرد من وصف وإيقاع مناسب وشخصيات ثانوية تجذر الحدث وتشتت الحكي، وتعدد الرواة، وتغاير في زاوية التبئير، من خلال تعدد ضمائر السرد، كون الرواية القصيرة تقتل هذا الإسهاب الراكز في متابعة الحكاية وتجليات عنصر التشويق فيها، كما تعمل الرواية القصيرة على التخلص من الكثير من التفاصيل الهامشية التي لها دور فاعل في تنميط فاعلية القراءة. الكثير من النقاد والقراء يؤكدون أن جمالية الرواية تكمن في التفاصيل حيث يكمن شيطان السحر والمتعة في طبيعة المعالجة السردية في تنمية الشخصيات في اللغة الشعرية، في جماليات الوصف في الشرود الذهني للبطل، في المنلوج النفسي، في الحوار مع الذات والآخر، في المشهدية، في تنويع السرد عبر تداخل الضمائر والقفز عبر الزمن والمكان تحقيقا للعبة الحذف والإيجاز، فبعض القراء لايريد من الرواية حدثا عابرا أو خبرا موجزا دون المرور عبر تجليات اللغة المدهشة المعبرة والسرد العميق والشخصيات الساردة والحدث المفصل على مساحة نفسية وفضاء جمالي يراود الحاجة النفسية للقاريء إلى بحبوحة من المطاردة والمخاتلة والإيهام، وهو ما لا تسمح به جغرافيا الرواية القصيرة جدا لجموحها نحو التكثيف وإيجازها ورغبتها في لملمة الحكاية في اختصار و إيجاز، وفي اقتصاد لغوي واضح يزيد عن خمسة آلاف كلمة، وحبكة فريدة ولحظة سردية فاعلة. لذلك، على الروائي أن يختار في الأدب الوجيز، الكلمات المعبرة الموحية التي تغني عن التفاصيل ولاتخل بجوهر الحكاية السردية ولها القدرة في جذب القاريء وتحقيق انجازية التفاعل وغور الخطاب في وجدان القاريء، فلا يعني ذلك أن التجارب الجمالية القصيرة غير قادرة على التأثير أو هي غير متمكنة من العمق الجمالي، والتنويع الدلالي، بل هناك الكثير من الأعمال الروائية القصيرة لها الكثير من العمق والأصالة في التجريب في سرديات الرواية القصيرة جدا، من أمثال نمش ماي وأكره مدينتي... للشاعرة والروائية فليحة حسن، وان لم تجنسهما بالرواية القصيرة جدا، ورواية هياكل خط الزوال للكاتب مهدي ازبين جاءت بتجنيس الرواية التقليدية وكذلك هناك تجربة غنية للروائي حميد الحريزي من خلال خمس تجارب روائية قصيرة كرواية المقايضة، وأرض الزعفران، والقداحة الحمراء، ومذكرات كلب، كون الرواية القصيرة جدا بإيجازها وهيكليتها وبنيتها جاءت في مواكبة عصر السرعة وتكنولوجيا المعلومات، تتطلب تركيزا وعمقا، وتجربة كتابية راكزة وخبرة معمقة في بناء الشخصية وتنمية الحدث، واللعب على هاجس الرمز والإيحاء، مما يتطلب الكثير من الجهد للتأثير وصناعة الخطاب الموجز والهادف، مما يعزز دور الخيال عند القاريء ويشركه في صيرورة الحكي، عبر ردم الفجوات وبناء عالمه السردي المخيالي المحايث للحكي. لقد أضحت اليوم علاقة القاريء بالكتاب ضعيفة بسبب مزاحمة تكنلوجيا المعلومات والثقافة القرائية المرئية مما تسبب في هجرة الكثير عن تناول الكتاب وعن الرواية الطويلة على الأخص، وهذا من تبريرات كتاب الرواية القصيرة جدا، كون الزمن اليوم معطى ثمين جدا عند القاريء، تتلاقفه مشاغل وجودية كثيرة، فلا مجال للقاريء للقصص الملحمية والروايات الطويلة، فعلينا الأخذ بتلابيب القاريء من الوهلة الأولى، عبر العنونة الجاذبة، والاستهلال المعبر الأخاذ، والحدث المحدد، والشخصية المؤثرة بأساليب جمالية مغرية ومدهشة، لاتأخذ من وقته الا القليل، ولاتسلبه المتعة بهوس التفاصيل وتشظي الأحداث. لذا يأتي السرد الموجز في رواية الحريزي القصيرة جدا (مذكرات كلب)، وعبر أنسنة الشخصية الرئيسة الكلب ومنحه آلية سرد الأحداث، والكشف عن مضمون الرسالة الفلسفية للحكي وإمداد القاريء بالمعلومات الكافية، حيث تمكن الروائي عبر شخصنة وأنسنة الكلب من الوصول بالعقدة إلى لحظة التأزم والتفجير، من أجل إدانة الواقع الميداني بالزيف والخيانة. فقد عمل كثير من الكتاب على أنسنة الحيوان فقدم الكاتب مهدي أزبين الكلب بشخصية الكائن الوفي المدافع عن أسياده البشر في رواية هياكل خط الزوال، وكذلك قدمت الروائية رغد السهيل الحمار كرمزية للكائن المسالم المصاحب لرفيقه بصبر وتجلد كما قدم الروائي الحريزي حميد، (الكلب حنفوش) بصيغة ضمير المتكلم، وقدم لنا أخبار ومعلومات كافية عنه وعن باقي الشخصيات ما يجعل القاريء يشارك في حلحة ونقد المرحلة المثخنة بتداعيات الحروب والجدب، فتجريب الروائي الحريزي في لعبة الحكي هو التقدم للأمام بتذويب الواقع عبر تحولات الشخصية الكلب من كون البحبوحة والراحة عند السيد المتصابي الخائن والمترف، إلى التسكع في الشوارع اللاهبة والعراك مع الكلاب والقطط السائبة على المزابل، الى محنة الموجهة مع قوى الظلم والتسلط، كان الكلب حنفوش هو الراوي العليم الذي من خلاله عرفنا كل ما يجري في فضاء الرواية وفضائح الشخصيات وتداعيات عالمهم المثخن بالخيانة والغدر، وعبر شخصية الكلب قدم الروائي كل تفاصيل الرواية، وتقديم الأحداث. حيث كان البطل حنفوش هو نقطة ارتكاز الصراع الدرامي التي جمعت كل أوصال نسيج الرواية، وقد منح الروائي شخصية الكلب مطلق الحرية ليروي ويسرد أوجاعه التي جاءت مرآة كاشفة، ومعادل موضوعي لأوجاع المحيط الإنساني، ولكن عبر زاوية نظر مختلفة تتصف بالدهشة والمفارقة، هي زاوية نظر الحيوان الأليف الذي اتصف بالكثير من النوازع والمشاعر الإنسانية، فجاء نقده وسخطه علينا وعلى خيباتنا مضاعفا. لقد جاءت سرديات الكلب حنفوش بمذكراته واسترجاعاته بمألوفية واقعية هي من محليات مواجعنا وقهرياتنا القدرية الصادمة، لذا توفرت محكياته على درجة عالية من التوفيق والمصداقية، كونه ضحى براحته وسلامته وهناء عيشه من أجل كشف الزيف والخيانة، ونصرة صديقه المرتهن قيد الحبس والتجبر، وهكذا أخرجه لنا السرد الكثيف الموجز، ذلك الكائن الذي خسر كل شيء ولكنه ربح نفسه وموقفه النبيل، كما جاءت تحولات الفضاء المكاني واضحة المعالم عبر تفسير الكلب حنفوش، وقدرته الباذخة في التعايش مع المكان وقراءة الواقع، فهو لم يكن رائيا وساردا فقط بل مفسرا للأحداث ومعلقا ومشاركا فيما يجري، فهو يقدم الواقع من دون رتوش أو أقنعة، فهو يعمل على تجريد الأقنعة عن الواقع والبيوت والمكان والشخصيات، هو الرائي الفاضح والرسام الذي أراد رسم لوحة مزدانة بالبهاء والجمال والبراءة، فعملنا نحن البشر على تلويث تلك اللوحة بسواد الخيانة والمكر وحمرة الدم والجريمة والفجيعة، وهكذا جاءت الرواية القصيرة جدا، عبر الإيجاز والاختصار والركون نحو حبكة راكزة رئيسة قدم الروائي الحريزي معالجة درامية المنحى عبر آلية تبئير اشتغلت على متواليات المكان وتحولاته المصيرية من خلال الرائي الكلب حنفوش الراصد للتحولات تحولات مصيره ومصير رفقائه في الكون والعدم .