للديبلوماسي والفرنسي الشهير دو طاليران Charles-Maurice de Talleyrand-Périgord عبارة حكيمة يقول فيها»»إذا كانت الأشياء تسير بدون القول فيها، فإنها تسير بشكل أفضل إذا تم قولها««، ويبدو أن بلاده فرنسا اختارت الفلسفة الكامنة في الشق الأول، في حين يريد المغرب الشق الثاني من حكمة دو طاليران . فرنسا تتحدث عن القضية الوطنية للمغاربة، وتكرر على مسامعنا بأنها تعرف القضية وأنها كانت مدعمة للحكم الذاتي، كما تقول بأنها مع المغرب في صحرائه ضمنا.وبدون أن تقول ذلك صراحة على غرار الإسبان والأمريكان والألمان.. أما الرباط فإنها ترى بأن القول الصريح يكون أروع وأحسن. وأفضل.. الدفء الذي يعود إلى سلك الهاتف بين العاصمتين بعد أن كشف الإليزيه عن مكالمة هاتفية بين الملك والرئيس، والدفء في العلاقات الذي يمر عبر المأدبات الحميمية، عن طريق ضيافة زوجة الرئيس للأميرات الثلاث ( نعود إلى طاليران أفضل مساعد للديبلوملسي هو .. طباخه)، يعيد الانتظار( أو الأمل ، حسب زاوية النظر) ، بما هو الحال الذي يوجد عليه الشعب وملكه.. إلى بدايته. بطبعة الحال عندما تقع بعض الأشياء التي لم يكن من المتوقع حدوثها، من قبيل المأدبة الأميرية في قصر الإليزيه، وزيارة سيجورني وحديث السفير، فمعنى ذلك أن أشياء تتغير، وأن الخروج من لحظة الجمود والجفاء في حكم الممكن. أولا: رافقت هذا الدفء والبحث عن العودة إلى النقطة التي وقفت عندها العلاقات، العديد من القرارات، يجمع بينها التأكيد على تكسير الجليد،. بدون أفق جديد لحد الساعة. ثانيا: بعض القرارات التي كانت شبه موحدة في الصحافة الفرنسية، هي محاولة ربط التوتر بين العاصمتين بالتقارب مع الجزائر، وهنا لا بد من ملاحظتين رئيسيتين، أولاهما أن التقارب مع الجزائر لا يعود واضحا ولا حاسما ولا واقعا يفوق ما كان عليه الأمر بالرغم من العربون الذي قدمه إيمانويل ماكرون بخصوص الذاكرة، والاتفاقيات الكثيرة التي وقعت بعد زيارة رئيسة الوزراء السابقة. وثانيهما أن المغرب لا يهمه تقارب فرنساوالجزائر، لا سيما وهو يعلم أن الأمر بالنسبة للطبقة الحاكمة في الجزائر يفوق تصحيح العلاقة أو تطهير الذاكرة أو الرفع من محاصصة التأشيرات. الأمر يتعلق بشرعية وجود لا يمكنها أن تقوم إلا على الاستمرار في الذاكرة التحريرية التي لا تقوم إلا ببقاء فرنسا في خانة التعود ( رسميا وظاهريا، حتى ولو كانت صانعة الملوك في البلاد واقعيا بالفعل لا بالقوة وحدها) والمغرب نفسه يمد يده إلى الجارة الشرقية أكثر من فرنسا، وهو بذاته يسعى إلى القرب، وبل إنه كان يرد الشراكة في ريادة شمال إفريقيا ضدا على حسابات الحلفاء التقليديين والقوى السابقة، كما انتقدها ملك المغرب في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، نفس الانتقاد الذي وجهه إلى ألمانيا بسعيها إلى عرقلة تقدم المغرب لتتيح تقدم الجزائر وتونس، كما ورد في الخطاب نفسه، وأتى أكله مع ألمانيا ولم يأت بعد مع فرنسا. وعليه فإن السعي إلى بناء التحليلات على هذا التقاطب لن يجدي في توضيح الرؤية، وإذا كان سيجورنيه يريد أن يرى الشاطئ بوضوح ما عليه سوى أن يضع نظارات الصحراء، كما يضعها المغاربة، لتصحيح البصر.. وجود سيجورني، الذي قاد الحملة ضد المغرب في البرلمان الأوروبي، واستصدر القرار ضد بلادنا، الأول من نوعه منذ 1995، بخصوص حرية التعبير والرأي والصحافة.. إلخ، يضع المسؤولية في الحل على عاتقه ويذكرنا بملاحظات لا بد منها: – أولا، لقد كان تعليق الرئيس إمانويل ماكرون على رد فعل المغرب والرأي العام والصحافة في بلدنا عندما هاجمت سيجورني أن الحكومة لا علاقة لها بالبرلمان الأوروبي. وبطبيعة الحال من الصعب أن يهضم المغاربة فصل السلط على الطريقة الماكرونية، لا دستوريا ولا سياسيا ولا إنسانيا، والخاص والعام يعرف أن سيبستيان سيجورني رجل ماكرون بامتياز. ثانيا، على اعتبار أن ذلك صحيحا، فإن دفع الرئيس ماكرون رئيس فريقه النيابي الأوروبي أن »ينخرط« شخصيا في العلاقة مع المغرب من أجل صفحة جديدة فيها نوع من تحميل المسؤولية للشخص نفسه ومعناها أن على السيد الذي تسبب في المشكلة أن يحلها، من تسبب في المشكل أوروبيا عليه أن يحلها ثنائيا. وبالتالي فإن المنتظر منه يدخل في صميم المسؤولية الكاملة له شخصيا ولعلها طريقة ماكرون للخروج من المأزق.. ثالثا، لم يعلق المغرب إلا سلبا على كل التسريبات والتصريحات الفرنسية، منذ أيام السيدة كاترين كولونا، ونذكر بأن الدبلوماسية المغربية قد ردت عليها في الندوة المشتركة بخصوص قرارات السيادة الفرنسية التي لا دخل للمغرب فيها. عليه فإننا نصل إلى بيت القصيد، وهو أن المغرب يطلب من فرنسا أن تتعدى الأفق الذي رسمته لنفسها منذ 2007، والمغرب ينتظر منها شراكة في تدبير الحكم الذاتي دوليا كما بدأته. وليس منطقيا أن تبقى في موقف متخلف عما كانت عليه منذ 2007، بعد أن تقدمت دول أخرى في طريق الإقرار بالسيادة المغربية على الصحراء هذا قرار يفوق الديبلوماسية ويلتحق بالتاريخ، كما هو حالنا مع أمريكا التي لم تنس أبدا أن المغرب هو أول من اعترف باستقلالها عندما كانت كل العواصم مترددة أو معارضة..منذ ثلاثة قرون.! هناك متغيرات كبيرة وقعت، منها موقع المغرب الجيد قاريا ودوليا، وريادته الإقليمية في القارة، والتي تأتي في سياق فقدت فيه باريس مواقع القدم والقلم، بل أصبحت الجمل الأجرب في العديد من العواصم بما فيها العواصم التقليدية ولدى النخب بما فيها النخب الفرنكوفونية.. وليس سرا أن الزيارة تزامنت .. مع وصول رئيس الحكومة إسبانيا وهي زيارة أحيت التنافس بين الدولتين اللتين تتبادلان الترتيب على رأس الدول الشريكة تجاريا واقتصاديا مع المغرب. فقد فقدت فرنسا الحظوة في المغرب والقارة وكسبت إسبانيا موقعا جيدا مع المغرب ومع القارة ( بيدرو سانشيز كان رافق رئيس المفوضية الأوروبية اورسولا فون دير لاين إلى موريتانيا، كما أن الملك كان قد زارها من قبل في أفق توطيد العلاقة بين البلدين )، وفي الوقت الذي ينتظر. إيمانويل ماكرون أن يحدد الملك موعد الزيارة وسياقها كان بيدرو سانشيز قد وصل المغرب والتقى جلالته وأكدا على مواصلة السير. ولعل الجديد في البلاغ الصادر بعد الزيارة هو الاهتمام الإسباني بمشاريع المغرب الإفريقية..، التي فقدت فرنسا الكثير من عواصمها! ( ليس من المعقول أن يتخلف الفرنسيون عن وزيرهم في الداخلية شارل باسكوا الذي زار العيون المغربية في 7 يناير 1994!).. الواقع أن الجزء الكبير من النخبة الفرنسية (برلمانيون ورجال أعمال وديبلوماسيون وإداريون ) لا يترددون في زيارة الأقاليم الجنوبية في اعتراف عملي بمغربيتها، وما ينتظره المغرب هو الموقف الرسمي، المكتوب والمسجل للتاريخ وللسياسة. وهو ما سيفتح بابا واسعا للأرشيف الديبلوماسي وأيضا لحقائق كبيرة عن واقع الجغرافيا الموروثة عن الاستعمار.. وينهي النزاع المفتعل بل ويخرجه من قمقم الأسرار الذي تستعمله باريس في موازين القوى الجيوستراتيجية في شمال إفريقيا. خامسا، كان لافتا أن العبارة نفسها التي استعملها ماكرون ثم الممثل الدائم لفرنسا في مجلس الأمن والوزير الجديد في الديبلوماسية والسفير لوكورتيي تضمن وعدا بالذهاب قدما إلى الأمام«، ولا أمام في نظر المغرب سوى حسم الاعتراف بسيادته، وما يترتب عنها بخصوص مواقف فرنسا وأسرارها الترابية..في شمال القارة وبيننا وبين الجيران، وهنا نستطيع القول إن سيجورني حدد في ندوته الصباحية امس معنى الذهاب قدما، في هذا الملف من »باب البراغماتية» واعتبر أن دعم نمو الأقاليم الجنوبية هو المدخل للاعتراف العملي بسيادة المغرب على الصحراء، وهذا الدعم العملي كانت له صيغه سابقا ولا يمكن أن نقطع نصف الطريق فقط نحو أفق جديد ! أما العبارة الثانية المثيرة هي تصريح السفير بأنه لا يمكن أن نتصور تقدما بدون موقف واضح من الصحراء: إذا كانت فرنسا تثمن وتدعم الحكم الذاتي، فإن الموقف الواضح هو الإقرار بمركزية الصحراء في وجودية المغرب ومكانتها في تحديد الشراكات. وأخيرا قال السفير إن للمغرب وفرنسا ما يفعلانه معا في إفريقيا: بعد أن ظلت فرنسا، بإيعاز من مخزنها التقليدي، ترى في تواجد المغرب منافسة وتقدما غير مسموح بهما للحليف السابق، الذي تحول إلى منافس(بلغة الوزير الأول السابق آلان جوبي)، وهو هنا يكون قد عبرعن تجاوب فرنسا مع اقتراح المغرب في اقتسام الريادة الإفريقية، عبر مثلث ديبلوماسي تكون فيه الرباطوباريس ضلعاه والقارة الإفريقية ثالث أضلعه، وهو مثلث متساوي الأضلاع لا تقدم فيه لطرف على آخر.. سادسا، لا يمكن للماكرونية أن تلغي تطور الطبقة السياسية الفرنسية، لا سيما في الأوساط الجمهورية واليمينية التقليدية، التي صنعت الجزء الكبير من علاقات فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو. تطور جعلها تعلن بوضوح عن دعمها لسيادة المغرب على صحرائه.. ومن ذلك زعيم الجمهوريين ايريك سيوتي الذي دعا ماكرون نفسه إلى الوضوح والجرأة في موقفه من السيادة الترابية للمغرب. مطلوب من فرنسا أن تتخلى عن نظارات التاريخ التي ترى بها المغرب، أي أن تحدد مستوى ما هو مطلوب منها إزاءه..يجب أن تنتقل إلى زاوية أخرى للنظر، تكون فيها الصحراء نظارات لتصحيح الروية! ختاما يجب أن ننظر بعين الإيجاب لتصحيح الموقف من القضية الحقوقية. وإن كان المطلوب ما هو أبعد منها، فإن إقرار. الرجل الذي تحرك من أجل إدانة المغرب في يناير من العام الماضي قدم موقفا مخالفا من القضية الحقوقية عندما هنأ المغرب على ترؤسه للمجلس الأممي المكلف بحقوق الإنسان.ومن المنطقي أن يكمل نقده الذاتي بالعمل من داخل القبة الحكومية على تصحيح النظر أوروبيا!