، بهذه الكلمات توجه البابا فرنسيس إلى الفرنسيين والأوربيين، خلال زيارته لمرسيليا، من أجل التنديد بما يتعرض له المهاجرون في البحر المتوسط الذي تحول إلى مقبرة أمام تنامي خطاب سياسي معاد للهجرة وتجييش للرأي العام ضدها خاصة بفرنسا وإيطاليا، حيث يموت عدد كبير من الشباب الإفريقي أثناء محاولته الوصول إلى أوربا في البحر المتوسط. ويحاول البابا منذ وصوله إلى الفاتيكان التحسيس بهذه المأساة الإنسانية وهذا الموت على أبواب أوربا الذي يحصد عددا كبيرا من الشباب الفارين من ويلات الحرب والكوارث الطبيعية التي تضرب إفريقيا وعددا من مناطق العالم. البابا منذ وصوله إلى الفاتيكان اختار أن يضع الاهتمام بالهجرة والمآسي التي تتسبب فيها كأحد أولوياته، وقام منذ تقلده مسؤولية الفاتيكان بزيارة إلى جزيرة «لومبيدوسا» التي أصبحت البوابة الرئيسية لدخول المهاجرين، وكذلك مقبرة للذين تبتلعهم أمواج البحر، واليوم تمر 10 سنوات على هذه الزيارة التي كانت أول تحرك له بعد اعتلائه كرسي البابوية، وكانت إشارة قوية منه تجاه الضعفاء وتجاه كل هؤلاء المهاجرين الذين يموت جزء منهم في عرض البحر. وفي صلاته بمرسيليا، أحد منارات المتوسط ومدينة الهجرة والتلاقح الحضاري مند عدة قرون، قال البابا إن الهجرة التي احتلت صدارة المشهد في إيطاليا في الأيام الماضية مع وصول آلاف الأشخاص الذين انطلقوا من سواحل شمال إفريقيا إلى جزيرة «لامبيدوسا»، تمثل «تحديا غير سهل»، وأضاف «لكن ينبغي مواجهته معا لكونه أساسيا من أجل مستقبل الجميع الذي سيكون مزدهرا فقط إذا بني على الأخوة، وبوضع الكرامة البشرية والأشخاص، لاسيما الأشد عوزا، في المقام الأول». وهذا تذكير للأوربيين الأغنياء الذين يتفرجون على مأساة إفريقيا التي تنهب خيراتها بالقول إن المستقبل غير ممكن بدون حفظ الكرامة البشرية ومواجهة آفة الفقر التي يعتبر الجميع مسؤولا عنها خاصة القوى الاستعمارية التي استغلت القارة الإفريقية. خطاب البابا منذ تحمله المسؤولية سنة 2013 يحرج القادة الأوربيين ويضعهم أمام مسؤوليتهم السياسية والأخلاقية، وكذلك السياسيين خاصة من اليمين واليمين المتطرف الذين يضمون في صفوفهم عددا من المسيحيين المحافظين. هذا الخطاب الإنساني للبابا يقابله خطاب متشدد للمسؤولين الأوربيين، « يتعين علينا حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، خصوصا النظر فورا في طلبات اللجوء، وإعادتهم إلى بلادهم إن كانت غير مقبولة»، يقول وزير الداخلية الفرنسي جيرار درمنان خلال زيارته لإيطاليا الأسبوع الماضي حول وضع الهجرة بجزيرة لامبيدوسا . ويهدف وزير الداخلية الفرنسي من خطابه هذا إلى التجاوب مع الفئة المتشددة من ناخبيه و» تهدئة التوتر مع الحكومة الإيطالية المشكلة من ائتلاف اليمين واليمين المتطرف والتي انتقدت رئيستها جورجيا ميلوني نقص التضامن الأوروبي مع بلادها التي استقبلت حوالى 130 ألف مهاجر في 2023.» فون دير لايين، رئيسة المندوبية الأوروبية، عرضت هي الأخرى خطة طارئة لمساعدة إيطاليا، من خلال تقوية نشاط الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود والسواحل (فرونتكس) في مجال مكافحة المهربين، وتسريع الدعم المالي لتونس التي ينطلق منها غالبية المهاجرين، وتعزيز «المسارات القانونية» للهجرة نحو القارة، ووصول عدد من المسؤولين الأوربيين إلى جزيرة لومبيدوزا وسط احتجاجات السكان على الوضع بالجزيرة الذي تأثر بالوصول الكبير للهجرة، وبالموازاة مع وصول المسؤولين الأوربيين وصل بعض قادة اليمين المتطرف إلى الجزيرة للاستفادة من هذه الوضعية وأخذ صور لهذه المأساة الإنسانية . زيارة البابا هذه إلى مدينة مرسيليا خلقت نوعا من الإحراج للمسحيين خاصة الذين أيدوا الخطاب السياسي المعادي للهجرة وهؤلاء المحافظين الذين لم يتردد البعض منهم في انتقاد تدخلاته السياسية «واتهموه بالقيام بالكثير تجاه المهاجر». لكن البابا تميز موقفه بالشجاعة في الدفاع عن مبدئه تجاه التعامل الإنساني والعادل مع الهجرة، وهو الأمر الذي كرره خلال يومين بمرسيليا وفي مختلف اللقاءات، وشدد على أن الهجرة «واقع ثابت في زمننا وهي ظاهرة تشمل ثلاث قارات حول البحر الأبيض المتوسط، ويجب التعامل معها بحكمة وبعد نظر، بمسؤولية أوروبية رغم الصعوبات الواقعية.» مشيرا إلى الخطر الذي يتهدد حياة المهاجرين إذا لم يتم نقلهم إلى بر الأمان، «هناك صرخة مدوية أكثر من أي شيء آخر والتي تحول بحرنا إلى بحر الأموات، وتحول البحر الأبيض المتوسط من مهد الحضارة إلى قبر الكرامة»، يقول الحبر الأعظم. وجاءت زيارة البابا بعد أيام قليلة على وصول آلاف الأشخاص إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى تبني خطة طوارئ لمساعدة روما على إدارة تدفقات الهجرة من شمال إفريقيا. فهل سيسمع الفرنسيون والأوربيون نداء قائدهم الروحي ودعوته إلى الإنسانية والتضامن في التعامل مع المأساة التي يعرفها البحر المتوسط أم أنهم سوف يتبعون خطاب الخوف والعداء الذي بدأ ينتشر وسط السياسيين بأوروبا.