إنها الحرية، كالفرح والحزن.. كما لو كانت الكلمات صدى لإيقاع يعلو ويهبط ويعلن عن نفسه، فيفيض اللحن قويًا ويوقظ الحاضرين ثم يكمل الإيقاع دورته، كهذا الذي عزفته فرقة «تكناوني» وطوقنا جمالًا، وانفتح معه خيالنا في مستهل حفل ختام المهرجان الدولي للفيلم بمدينة الداخلة المغربية، تسللت الفرقة إلى مناطق عزفية ولحنية مفاجئة، اهتزت معها جنبات المسرح على أنغام موسيقى «قناوة» أو «كناوة» أو «غناوة».. تعددت الأسماء والمضمون واحد، رددت الحناجر مع «المعلم هشام»، يُعرف فنانو «كناوة» باسم المعلم الكناوي، الجميع في حضرة هذا الفن الموسيقي المغربي الخاص يستجيب لنداء طالع من عمق تراث إنساني يمتد إلى ماض بعيد، نداء يلامس المشاعر ويحمل قدرًا كبيرًا من الوجع والرغبة في لحظة إنسانية كاملة التكوين. كر وفر، حاولت أن أنأى عن اللحظة، لكن كل شيء كان يدنو بي من تضاريس المكان والحكايات غير المرممة، العذابات الإنسانية تبدأ صغيرة مثل حبة السمسم ثم تكبر حتى تطوَق الفضاء والأفق، يدق المعلم على «الكنبري» (آلة وترية) ويتوازى معه العازفون على «القراقب» (آلات حديدية جرسية تحمل بالكفوف) والطبول، بينما أنا أتذكر رحلتي منذ أعوام قليلة إلى مدينة الصويرة المطلة على المحيط الأطلسي، أحد المرافيء التي جلبت الأفارقة المستعبدين إلى المغرب، المدينة المحصنة بأسوارها والمنفتحة على غواية الحواديت القديمة، تبدو كأنها تقف عند مفترق المعاني لا الطرق فقط، مضيت أبحث فيها عن الروابط التي تجمع المغنيين والأطلسي، بينما كنت أقوم بتصوير حلقة تليفزيونية لصالح إحدى شركات الإنتاج الخاصة عن موسيقى تغوص في الروح، عنيفة ولينة في ذات الوقت، عن دق السلاسل الذي كتب سيرة أولى أغاني الدم المسفوك، ومخاض الروح المشتعلة بجراحها، وحينذاك أدركت هذا التماهي بين «قناوة» وال»جاز»، عوالم موسيقى متعددة الأبعاد، فيها مزيج من الخصوصية والإرث والعمق الثقافي والتطلع لتحرير الروح، كما شعرت أن كل حجر في الصويرة يكاد ينطق ويقول:»كان هنا بشر»، نعم كانوا هنا، جاؤوا من جنوب الصحراء: مالي، السنغال، غينيا، النيجر، عمالًا في مزارع قصب السكر لم يضع أثرهم في مهب الريح، بل خلدتهم موسيقى فككت أبجدياتهم بألحان صاخبة. الصخب الذي لازمني في حفل ختام مهرجان الداخلة السينمائي، أكد أن كل شيء ممكن في الموسيقى، كل شيء أخف وزنًا على خشبة مسرح تحمل آلات وموسيقيين يتواصلون في دائرة، موسيقاها قائمة على إيقاع له سطوة، لافت بطريقة آسرة، بدأ مع لوحة أساسها التشكيل المتجدد والخارج عن الصورة التقليدية، ثمة عازفون حوّلوا المكان إلى ما يشبه حلقة استعراضية، الأجساد تواصلت مع الآلات تتجاذب معها بأسلوب محبوك، لتقدم في النهاية مشهد موسيقي بارع. خمسة أيام قضيتها في مدينة الداخلة، لؤلؤة جنوب المغرب، رافقتني خلالها موسيقى البحر والصحراء، خليط موسيقي عجيب ومتنوع، من النمط الشرقي الكلاسيكي إلى الموسيقى الشعبية المغربية المتأججة بطابعها التلقائي، أما الموسيقى الحسانية فهي تراث المنطقة العريق تمتد في مجال جغرافي واسع يضم جنوب المغرب من الصحراء المغربية إلى موريتانيا، وترتبط تاريخيًا بالهجرة العربية االهلالية من الشرق العربي، إيقاع الطبل فيها يعبر عن مزيج ما بين الموسيقى الإفريقية والعربية، كما أنها تتميز بشاعرية مفرطة معروف بها أبناء الصحراء، ويسعى الشباب لتجديدها وتطويرها والخروج بها من الصحراء إلى عالم أوسع وتطوير الموسيقى الحسانية التي تتغنى بجمال الصحراء وصفاء سريرة أهلها، علها تكون أقرب إلى ذائقة الشباب من أهل الصحراء وخارجها. تعايشت مع الموسيقى الحسانية منذ اليوم الأول، نثر الكلام على سجيته يصنع نوعًا من الوهج، ويترك أثرًا غنائيًا يتوارثه الأجيال من أهل الصحراء، وحدسَا يمشي على هديه الغرباء من أمثالي الذين يشدهم هذا التجلي الحر للفن، ويحرك فيهم ذاكرة وحسًا، كما فعلت به هذه السيدة الراقصة في الفرقة التي عزف وغنى أفرادها على هامش افتتاح وختام مهرجان الداخلة السينمائي، أمام مدخل قصر المؤتمرات، حين سبقتني بخطوة وفاجأتني بأن أهدتني «ملحفة»، الزي التقليدي للمرأة المغربية/ الصحراوية، بينما كنت أشجعها وأتبع حركاتها الراقصة الحرة، إذ كانت تصنع مفرادتها الخاصة، بحركات يديها التعبيرية وأصابعها المخصبة بالحناء، تتسع مساحتها في تماهي محسوب بين جسدها والموسيقى حين تصغى لصوت المغني معها، ترمقه بطرفها ثم تعبره هو المحيطين، كأنها تفلت من وطأة كل شيء وتطير حرة في فضاء هش. للمحيط رائحته الأسرة وللصحراء سحرها، وعن الاثنان تأويلات لا تنتهي ورغبات جامحة في التوغل خلالهما، لذا فإن الداخلة، شبه الجزيرة الممتد إلى عمق 40 كيلومتر في المحيط الأطلسي، جغرافيا جاذبة للسياحة ولا سيما سياحة الصحراء والرياضات المائية، يساعد على ذلك أنه يتوفر لديها مطار وكذلك وسائل مواصلات تربطها بالمدن الكبرى، إضافة إلى تعدد الخيارات من الفنادق، ومع وفرة هذه المقومات كان لابد من الحضور السينمائي، سواء باستكشاف المنطقة وتكريسها كموقع تصوير أو إقامة المهرجان السينمائي الخاص بالمدينة، كجسر تواصل أخر مع العالم حتى لا يختل التوازن، وهو الشيء الذي حاول أن يرسخه المهرجان الدولي للفيلم بالداخلة، المهرجان الذي بدأ ك»أيام سينمائية»، ثم نما مع الأيام وأصبح مهرجانًا احترافيًا تنظمه جمعية التنشيط الثقافي والفني بالأقاليم الأجنبية، ويرأسه شرف الدين زين العابدين. في دورته الجديدة التي انتهت منذ أيام سعى المهرجان لتأكيد هويته الأفريقية رافعًا، شعار «الداخلة بوابة أفريقيا»، كما قدم تجاربًا متنوعة مغربية وإفريقية، سواء بالاحتفاء بسينما أنجولا كضيف شرف، أو بتقديم أسماء جديدة عبر تجارب مختلفة في السينما العربية والإفريقية، بخلاف التكريمات التي شملت المصرية رانيا فريد شوقي، المغربية أسماء الخمليشي، الأنجولي زيزي كامبوا.. هذا التنوع كان كافيًا لطرح سؤال حول ما يحتاجه مهرجان يقام على الأطراف بعيدًا عن العاصمة، ربما تواجهه أزمات عديدة أغلبها مادية، لكن 11 دورة تعني أن المهرجان يناضل من أجل الاستمرار. أتصور أن المسألة غير سهلة، لكنها تستحق النضال، كما يستحق أهل المدينة أن تصل السينما إليهم، والعمل على خطط عملية وكثيرة من أجل ذلك، مثل: التثقيف السينمائي، ورش تعليمية، تشييد صالات العروض، برمجة سينمائية خلال العام .. هكذا أمور تجعل السينما قادرة على الاستمرار، وتؤكد أن المهرجان مطلبًا ضروريًا لإبقائها وديمومتها. ناقدة سينمائية مصرية (*)