قليلا ما يجرى الاهتمام بمسار عبد الواحد الراضي الذي وافته المنية في 26 مارس 2023 بباريس، عن عمر 88 سنة، في مجال التأطير الجمعوي والتربوي الذي بدأه منذ العشر سنوات الأخيرة من الحماية ومرحلة الاستقلال، في الوقت الذي يسلط الضوء بالخصوص على مساره السياسي والبرلماني. وتعد 1949 السنة التي أشرت على انطلاقة عبد الواحد الراضي ( 1935- 2023 )، من خلال خضوعه لتدريب تحضيري خاص بأطر المخيمات الصيفية بغابة المعمورة بضواحي مدينة سلا، الذى كان الأول المنظم باللغة العربية، بعدما لم تكن تلك المخيمات في مرحلة أولى، متاحة على مستوى الاستفادة والتأطير إلا للفرنسيين وحدهم، ليشمل هذا النشاط التربوي فيما بعد ذلك تلاميذ المدارس العمومية المغربية، وأقرانهم بالمدارس الحرة لا حقا. وفي كتابه « المغرب الذي عشته ..سيرة حياة» من تحرير حسن نجمي، يحكى الراضيعن ذلك بالقول: « في لحظة معينة بدأ التفكير في تنظيم مخيمات خاصة بالمغاربة. لكن ما كان ينقص أساسا هو الأطر المغربية، وهو ما دعا الى المبادرة بتنظيم تدريب تكويني خاص بالأطر التي ستشرف على تسيير المخيمات الموجهة الى جمهور المغاربة». ونتيجة لذلك يوضح الراضي الذي تولى عدة مهام سياسية وبرلمانية في مقدمتها رئيس مجلس النواب ما بين 1997 أنه لم يتردد وسارعالى ترشيح نفسه، ليلتحق بمكان التكوين داخل غابة المعمورة. وتحديدا في المكان نفسه الذي كان قد استقر فيه إبان دراسته في المدرسة الفلاحية التي آل مقرها الى مصالح الشبيبة والرياضةالتي كانت إدارتهافي ظل الحماية، تنظم المخيمات الصيفية أطفال المناطق الداخلية كانوا يأخذونهم الى المناطق الساحلية، وأطفال المناطق الساحلية كانوا يأخذونهم إلى المخيمات الجبلية. من المخيمات الى السياسة في هذا التدريب التكويني، يقول الراضي رئيس مجلس النواب ما بين 1997 و2007 : «التقيت من بين المؤطرين الذين تكلفوا بتأطيرنا وتكويننا المرحوم الهاشمي بناني والمرحوم سي محمد الحيحي، سي العبدي، سي عبد اللطيف الباشا، وكذا سي محمد بنسعيد الذي جاء بدوره مثلى قصد اجتياز هذا التدريب، حيث كان هؤلاء جميعا من أبناء الحركة الوطنية ومن الأطر الاستقلالية . كما كان باقي الأطر الفرنسية من العناصر التقدمية تقريبا، بل إن بعضهم كان من الذين شاركوا في حركة المقاومة الفرنسية المسلحة ضد الاحتلال النازي لفرنسا، كما جاء في كتاب « المغرب الذي عشته». غير أن الراضي الأستاذ الجامعي في علم النفس الاجتماعي،والكاتب الأول الأسبق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كشف عن أن الهدف الرئيس من التكوين في مجال التخييم، بالقول:»ومن ثم لم نتكون فقط، كي نتقن أسلوب تدبير مخيم صيفي، وإنما أصبحنا بدورنا مؤطرين ومكونين نشرف على دورات تكوينية جديدة ،للمزيد من الشباب المغربي». وفي هذا الاطار يشير الى أنه تعرف وتأثر باثنين من المربين الاستثنائيين التقدميين، المتشبعين بثقافة إنسانية،واللذين ساهما في ثقافته الكونية بكل ما فيها من قيم التسامح والانفتاح على الآخرين، واحترام متبادل للأديان والثقافات والحضارات الأخرى، وهما إرنيستتيبوErnest thiebaultوجان بوليوJean polio . فعدد هذه الدورات التكوينية،صار أكثر من المخيمات التي كان مفترضا أنهتم الخضوع للتكوين من أجل تسييرها، وهو ما يعنى، أن جميع العطل المدرسية أصبحت مبرمجة للمشاركة في المزيد من دورات التكوين والتأطير والإشراف، إلى جانب الأطر الفرنسية على استقبال وتكوين أفواج الوافدين الجدد من الشباب. الأناشيد والرسالة الوطنية وكانت مناسبات وفضاءات هذه الدورات فرصا لمواصلة العمل الوطني، كانت الرسالة النضالية ماثلة على الدوام في الأداء والتواصل وربط العلاقات، وفي الحوارات والنقاشات مع الوفود الشابة الجديدة. كما أن تلك اللقاءات أغنت مخزون الأناشيد المغربية بحرص وتحفيز من جانب المرحوم الهاشمي بناني الذي ترجم بمعيته عدد من الأناشيد الفرنسية إلى العربية. « كانت لغتي الفرنسية جيدة بينما كانت عربيته جيدة جدا، وأدركنا أهمية النشيد في عملنا التربوي داخل المخيمات الصيفية، وأكثر من ذلك انتبها الى الرسالة الوطنية التي يمكن أن يؤديها النشيد، وما يمكن أن يبثه من قيم في نفوس الأجيال» ، وذلك في معرض حديث الراضي عن هذه تجربة التربوية هاته ملاحظا في هذا السياق بأن الفرنسية كثيرة ووافرة بينما كانت المكتبة المغربية فارغة من الأناشيد بالعربية، مما كان مطلوبا بذل جهد جماعي في تعريب عدد من الأناشيد الفرنسية الملاءمة للثقافة والخصوصية المغربية وللقيم الإنسانية والجمالية التي نؤمن بها ونعبر عنها. وكشف « أن المخيمات الصيفية وكذا الجمعيات والمنظمات الكشفية وبالخصوص الكشفية الحسنية، لعبا دورا حيويا في إشاعة ونشر هذه الأناشيد الجديدة التي عربناها أو ابتكرناها». دينامية جمعوية وبتعاون مع السيدة كاترين صرفاج رئيسة قسم الموسيقى بإدارة الشبيبة والرياضة، قامعبد الواحد الراضي رفقة ابوبكر الصقلي بتعريب مجموعة من الأناشيد التي مازالت تردد بالمخيمات لحد الآن، من بينها: « وعل كبير بالغابة» و»ذا جرس الكوخ القديم» و»عند شمس الغروب تجتمع القلوب حول هذه النار تجتمع الأفكار» و»سيرو بغنى غنى الشباب سيرو بغنى غنى الصحاب و»هذا المسا رطيب» و»ولدى ولدى هل رأيت ولدى» و»في الغابة البعيدة أنصت الى الطيور»و»هلموهلموهلمو أجمعين»، حسب ما جاء في مؤلف « الأناشيد الوطنية المغربية ودورها في حركة التحرير» للأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل.» لقد بقي عبد الواحد الراضي في عمق الحراك التنظيمي، وفي صلب الدينامية الجمعويةإلى أن تحقق مطلب الاستقلال، في الوقت الذي كانت الحركة الكشفية تنظيما،قوية، و الكفاءات التي تأطرت في سياق المخيمات الصيفية، كانت حاضرة ومنظمة وفاعلةوأطر الجمعيات هم المؤهلين والأفضل في تأطير الشباب. تأسيس أوطم وحركة الطفولة ولاميج وبإشراف الشهيد المهدي بن بركة، انبثقت في البداية، فكرة تأسيس إطار طلابي جديد على أنقاض جمعية الطلبة المغاربة، وذلك ضمن البحث عن آفاق تنظيمية لاستيعاب الشباب وتأطيره، إذ تبلور سنة 1956، مشروع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب التي جرى تهيئ كل الأسس لظهور هذه المنظمة،بالحضور الفعلي للمهدي بن بركة وإسهامه النوعي المتميز. وكان أول رئيس منتخب ل UNEM، طالبا بالدار البيضاء، لم يكن معروفا في الأوساط الطلابية الوطنية النضالية، اسمه ادريس مجدي والذي سرعان ما خلفه عبد الرحمان القادري ثم ادريس السغروشني. وبعد هذه المبادرة اتسعت الأفكار نحو تأسيس جمعيات وطنية أخرى، هي حركة الطفولة الشعبية، تحت اشراف الطيبي بنعمرMTC، والجمعية المغربية لتربية الشبيبة AMEJ وكلف بها مجموعة من الاخوان من أبرزهم محمد الحيحي وعبد السلام بناني و بنعبد الجليل، وسي محمد بنسعيدوالدريسي، يذكر الراضي الذي قال « كنا نبلور فكرة الجمعية ، وننكب على اعداد أرضيتها وقانونها الأساسي بندا بندا» ، وهكذا جاءت فكرة تأسيس هاتين الجمعيتن.وأشار الى أنه اثناء الاجتماعات التمهيدية ( في شتاء وربيع 1956)، « كان يزورنا الزعيم علال الفاسي متتبعا نشاطنا وراغبا في معرفة وتيرة عملنا ماذا أنجزنا واي وصلنا؟». التطوع والرأسمال البشري كما يحكى الراضي عن المهدي بن بركة، الذي سيتحمل سنة 1956 مسؤولية رئاسة المجلس الوطني الاستشاري، سيزور المهدي بن بركة ، الصينويوغوسلافيا فيعود ممتلأ بفكرة العمل التطوعي. وأذكره في تلك اللحظة، وهو يتحدث عن إمكانيات المغرب محدودة ماديا، لكنه قوي من حيث رأس ماله البشري، لذا فإن ما ينبغي علينا أن نستثمره ونوظفه هو العنصر البشري، وبدا له أنه من الممكن تحقيق مشروع من هذا النوع . وكان يردد في هذا السياق بأنه لابد من اختيار انجاز مشروع رمزي، لكن مفيد سياسيا، ماديا، اقتصاديا ، اجتماعيا إنسانيا. ومن هنا جاءت فكرة طريق الوحدة. فإذا كانت تعوزنا الإمكانيات فلن تعوزنا إرادتنا وسواعدنا، كما كان يقول المهدي بن بركة الذي أشرف على عدة حملات للتوعيةوالتحسيس والتعبئة والتطوع،خلال سنة 1956 وبدايات 1957، فكانت حملة محاربة مدن القصدير ومواجهة البناء العشوائي وحملة عملية المدرسة وحملة التشجير وغيرها من العمليات التطوعية التي تقوم على إرادة تعبوية جماعيةحيث كان البعضيبنى والبعض يتبرع بالمواد وأدوات العملوالبعض يساعدفي مختلف الخدمات الضرورية. نبنى الطريق والطريق تبنينا في تلك المرحلة، يبرز الراضي في كتابه، « كانت الحماسة متقدة والروح الوطنية حية والجميع حريص على ترجمتها في الأفعال الملموسة. كما سادت روح التطوع على كل المستويات بما فيها عملية الحرثالتي كان عبد الرحيم بوعبيد، من موقعه كوزير الاقتصاد الوطني والمالية والفلاحة، يشرف على تنظيمها في البوادي والتي كان يرعاها ويدشنها المغفور له محمد الخامس». وهكذا يخلص المرحوم عبد الواحد الراضي الى القول: « تحركت الدولة في هذا الاتجاه وتحركنا نحن أيضا،بطريقتنا في قلب المجتمع « مذكرابالمساهمة في بناء أقسام مدرسية قروية في أحواز سلا في قرى احساين، علاوة على التجندلإزالة بعض مظاهر القصدير والبناء العشوائي في باب الخميس بمدينة سلا. وكان الراحل قد توقف مطولا في شهادته حول مسار التأطير الجمعوي والتربوي التطوعي في الخامس من دجنبر 2017 بالرباط خلال حفل تسلم «جائزة محمد الحيحي للتطوع» التي نظمتها «حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي» بالتعاون مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان وأرشيف المغرب، وذلك بمناسبة اليوم العالمي للتطوع، بحضور العديد من الشخصيات الرسمية والمدنية . وقد منحت هذه الجائزة في دورتها الأولى المنعقدة تحت شعار «نبنى الطريق والطريق تبنينا» إلى طريق الوحدة التي بمناسبة الاحتفال ذكراها 60، وذلك باعتبار هذا المشروع الوطني الكبير أبرز عمل تطوعي شبابي عرفه المغرب الحديث.