لم يكن في المشهد التباس: الماء القليل في الصحن يكْبو، ولا أمَلَ في أن تعْبث بهدأته ريحُ صباح. ومثل زُهيرات الأوركيد، بعد أن تطلّعت تُويْجاتُها، عادت، فجأة، إلى إغفاءتها المعتادة. بالكاد، الضّوءُ، خاطفا، ينشقُّ، ثمّ يتلاشى عبر سُلّم الخشب النّخِر. على غيْر عادته، الوضوحُ المباشرُ، مُنهالا على زوايا العتمة، بات يُحصي مُمتلكات البيت: ابتداء بالساعة الحائطيّة، التي أفرجت عن آخر شهقة، بمجرد أن تقهقر الليلُ تحت نُباح كلاب.. إلى النّافذة التي أفسحت للهواء آخر فسحة، بمُجرّد أن ارتطم الجناحُ بِلَوْح زجاج. لولا أن نشيجَ الصّوت العالقِ بالرِّتاج، مازال يتصادى مع أزيز الباب، كلما تذكّرت المقابضُ ذاتَ أكُفّ رفيقة. لولا أن مدى النّاظِريْن، من خلف العدسة، مازال يتّسع كالبحر، حين يجنحُ به اندفاعُ زورق. لولا أن دفْق الرّوح مازال يعلو ويدنو، مثلَ هامة العابر، تطفو وتغيب، بين المُرتفع والمُنحدر، من بعيد. أين السّيجارةُ المُلتهبة؟ رائحةُ النّفَس تتطايرُ كفُقاعاتٍ بيْضاء، يشهقُ بها صبيٌّ إلى أعلى، إلى ما فوقَ خياله؟ ليْس، ثمّةَ، التباس في أنّ سِتارة ما قد أُسدِلت: هناك، مثل المِروحة التي تصطكُّ من برْد. هنا، مثل العَلَم الذي يصطفقُ وسط صحراء. هل كان مُقدّرا أن ينْسحق آخرُ لقاء، تحت كَعْب الحِذاء العالي، لحظةَ أن صارت للوحْشة قُرون تنبتُ في الزّوايا؟