لاأحد سيدافع عن اجتياح تراب دولة مستقلة من طرف جيوش دولة أخرى، وعليه لا أحد سيجد لفلاديمير بوتين، في سجل الأخلاق العامة مبررا لما يحدث. هناك مصلحة وطنية لروسيا في ما أقدمت عليه، لا غبار عليها، وفي الدفاع عن تنفيذ التزامات الغرب إزاء روسيا، منذ انهيار الجدار وتفكك حلف وارسو واتحاد الجمهوريات السوفياتية. لكن الغرب الذي يرافع باسم سلام الأوكرانيين، يريد للحرب ألا تنتهي… يريدها ملحمية، طويلة وجارفة. يريد الغرب أن تستمر الحرب طويلا،. لا أحد يعرف لماذا يصر على ساعات إضافية للقتلى الجدد في أزقة المدن والقرى الأوكرانية، بالتحديد؛ ولابد من أن شيئا ما يدور في رأس الغرب الأوربي والأمريكي، الذي لا يحب أن يكون كدية لا تدور. إيمانويل ماكرون قالها بعبارة واضحة مشددا على أن هذه الحرب لابد لها من زمن حتمي، طويل.. وقد وجد الكلمات السهلة في تبشير الأوكرانيين بأن الدمار سيقيم بينهم طويلا. وحذر الرئيس الفرنسي من أن الحرب في أوكرانيا «ستطول ويجب أن نستعد لها».. ولسبب ما وجد العبارات الدالة على أن المقاومة هي التي تناسب المناخ العام في بلاده، وقال إن حكومته تعد «خطة صمود».. أين؟ في كييف أو في خاركوف؟.. لا، في الأبناك وفي البورصات وفي المعامل وفي السوبرماركيتات، التي ستشن عليها الأزمة الاقتصادية، غارات متوقعة. الغرب متفق، سواء كان داخل الاتحاد الأوربي أو خارجه. فلأن الحرب عادت إلى أوربا ولا يمكن أن نتصور كيف لماكرون أن يحاول تقليد «شارل ديغول» في الحرب العالمية الثانية، دون أن تحن وزيرة الخارجية البريطانية، «ليز تراس» إلى لعب دور ونستون تشرشل في صيغته النسوية! هي بدورها حذرت من أن »النزاع الروسي-الأوكراني قد يتواصل لسنوات عدة«، وأن »على العالم أن يكون مستعدا لإمكانية استخدام موسكو للأسلحة على نحو أكبر».. لابد من أن تلعب روسيا دورها كاملا في الذهاب بالعالم إلى حرب عالمية ثالثة، كما على الأوكرانيين أن يظلوا «مصممين على القتال». وقالت وزيرة بوريس جونسن من خارج «البريكست» وبعيدا عن أوربا ماكرون، أن سنوات طويلة تنتظر الدب الروسي المدجج بأحلام جوزيف ستالين ونيكيتا خروتشوف. برلين التي ظلت تخفي سلاحها منذ هزيمة النازيين في الحرب العالمية الثانية، وجدت فائضا من الموت في مخازنها، وتقدمت به إلى الأوكرانيين . وهي بدورها أجازت «تسليم كييف ألف قاذفة صواريخ مضادة للدبابات و500 صاروخ أرض – جو من طراز ستينغر و«عدة» مدافع هاوتزر». والمستشار أولاف شولتس يرى أن العدوان الروسي على أوكرانيا يشكل نقطة تحول، إنه يهدد النظام الذي نشأ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقرر أن بلاده ستستثمر مائة مليار يورو في المعدات العسكرية هذا العام، وستخصص أزيد من 2 بالمائة من إجمالي ناتجها الداخلي للدفاع سنويا. شولتس سيؤسس صندوقا خاصا" للجيش الألماني قصد استخدامه للاستثمارات في مجال الدفاع، وقرر تغيير سياسة بلاده العسكرية، مع إدراج الصندوق الخاص للجيش في الدستور! السلطات البلجيكية المتواضعة والمسالمة، أعلنت إرسال قافلة أسلحة تتضمن 2000 مدفع رشاش، و3800 طن وقود، لدعم الحرب ضد روسيا..! لنذهب إلى الحرب كما نذهب إلى الحرب! وما دامت الفترة التي تفصلنا عن القتل الجماعي في الحرب السابقة، فترة كافية نسينا فيها التراجيديا، فلنستعد من جديد… كل جنون الأسلحة. فلماذا يريد الغرب أن تستمر الحرب، بجثث الأوكرانيين، ويساعدها على المقاومة بالمزيد من الأسلحة وبالقليل من السياسة!؟.. لأن الغرب يريد أن يتعب الدب الروسي قبل أن يصطاده، في أفغانستان مثلجة وقارسة لا جبال فيها تعصف فيها الزوابع الرملية. الدب الذي نجا من أفغانستان جورجية منذ عشر سنوات، لابد أن يسقط صريع السلاح الألماني بيد أوكرانية والسلاح الأمريكي بكتف أوكرانية ومدافع بلجيكية بأقدام أوكرانية. فهو يريد من الضعيف أن يحقق له التوازن الاستراتيجي مع الدب الذي لا يريد أن يحاربه بجنوده / أبنائه. والواقع الحي أن فلاديمير بوتين كان قد أعطاهم مهلة من أربع عشرة سنة ليكتبوا الرد، ويخططوا ويضعوا الخرائط اللائقة بالحرب الطويلة الأمد. كل شيء كان متوقعا في تحركاته، منذ أعلن أنه يريد وقف انضمام جورجيا ثم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي ولما أوقف جورجيا في 2008، كانوا ينتظرون مجيئه إلى أوكرانيا.. كان يعلن مواعيده مسبقا، باختلاف بسيط في الساعات والأيام والشهور.. انتظروه في كييف، ويريدون. منها أن تكون مستنقعه الجديد.. منذ عقود انتصر التحالف الغربي بواسطة التكنولوجيات الجديدة في الدفاع عن حقوق الشعوب ووحدتها، في اتفاق مع ستالين نفسه. وتم توظيب صيغة وحيدة للسلام، هو السلام الذي تصنعه الانتصارات أو الانهزامات لا فرق، أو تعبد طريقه الجثث. بشرط واحد لا غير، أن تكون الجثث كثيرة تستحق سلامها الأبدي من بعد إنهاء المفاوضات… والغرب يريد من السلام أن يتحقق بدون مفاوضات، أو على الأقل بدون مفاوضات تسبق انسحاب بوتين من أراضي غيره . ولهذا يريد الرئيس الأوكراني تفاوضا سريعا وسلاما قريبا، في حين يريد الغرب سلاما بعيد الخطوات، جبانا على عتبات الحرب. ولهذا يقول الرؤساء الأوربيون، بدون الالتفات إلى دماء أوكرانيا العنيدة : اذهب الى الحرب وتلكأْ في السلام.. ولا تذهب إلى العاصمة مينسك التي كانت عاصمة لاتفاقيتين سابقتين….فغيّر المكان.. وكانت تلك طريقة الغرب في نسف السلام، لا في وقف الحرب..! بطل بالرغم من أنفه منذ اليوم الأول شعر الرئيس الأوكراني بالخديعة، واشتم الطبخة، لكنهم يريدون منه أن يكون بطلا بالرغم من أنفه، ومن حاسة الشم السياسي لديه التي استنشقت رائحة المشكلة منذ الساعة الأولى للهجوم عندما طلب العودة إلى موائد التفاوض..عاجلا! هكذا هي الدول التي تقوي مناعتها بالأسلحة: تطلب من الآخرين نسيان السلام البارد وتفرض شروط الحرب الساخنة… في عز الأزمة المسلحة، تشغل الصين عقلها الكونفوشيوسي، فهي لم تسكت عما فعله حليفها الشرقي، وأخبرته بوضوح أنها لا تقبل دخوله ترابا آخر، وإن كانت تتفهم دواعيه. والصين قادت حركة أخرى إزاء أوربا، فهي تدرك أن للغرب أخلاق المناسبات التي لا تضيع في مثل هذه الحالات، ولكنه يتحايل في الواقع على الآخرين ليخفي مسؤوليته. الصين تدرك أن قضية أوكرانيا ليست ضربة جنون بوتيني محض، بل تطورت »في سياق تاريخي معقد،« وتستخلص من ذلك أن أوكرانيا ينبغي أن تكون جسرا للتواصل بين الشرق والغرب، و»ليست خطا للمواجهة بين الدول الكبرى«. . عندما تشدد بكين على صيرورة تاريخية، فهي تنبه إلى أنه لا يمكن ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز أو حتى توسيع الكتل العسكرية. وإنه ينبغي احترام الشواغل الأمنية المعقولة لجميع البلدان. كما ينبغي التخلي تماما عن عقلية الحرب الباردة..«. وهي تلتقي مع روسيا في نقطة رفض النظام الموروث عن الحرب الباردة. الغرب يريد أن يقول بأنه نظام ما بعد الحرب الثانية، أي لما كانت الأدخنة مازالت تتصاعد من الجثث في العالم كله بعد دحر النازية ومجنونها أدولف هتلر. هناك خلل في التحقيب لهذا النظام وخلل في الرزنامة الزمنية المتعلقة به:أهو نظام ما بعد انتصار الحلفاء، غرب وسوفيات على هتلر، أم هو نظام الحرب الباردة بعد تقسيم العالم إلى نفوذ ترابي وجغرافي وسياسي وأمني؟ البعبع النووي في سياق التدقيق في الحرب بشقيها، الساخن والبارد، سبق أن كانت موضوع رؤية من طرف بوتين، عندما اعتبر تفكيك الاتحاد السوفياتي »أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. «كانت العبارة دليلا لغويا على »غريزة البقاء،« لكنه أيضا حشا المستقبل فيها كطموح »مجتمع يخرج من كارثة لكي يرفع رأسه«…. باستراتيجية كبيرة، يعرف الروس كيف يطبخونها، وهي تعني من بين ما تعنيه »رؤيةً للعالم مُهيلكةً حول هوية ما«..هي الهوية السلافية الروسية. في كتاب سفيتلانا أليكسيفيتش، «»نهاية الرجل الأحمر» «الصادرة ترجمته في دار««أكت سود»»،actes Sud الفرنسية عام 2013 ، تقول الكاتبة » في العمق نحن محاربون، إما نكون في حالة حرب أو نكون في طور الاستعداد لخوضها. لم يسبق لنا أبدا أن عشنا بطريقة مغايرة، من هنا مصدر سيكولوجيتنا كعسكريين.حتى في زمن السلام، كل شيء عندنا يتم كما في الحرب…«. عندما جاء بوتين، ازداد الأمر استفحالا ، فأصبحت الحرب، بديلا للأدب، وعوَّضتْهُ كَمكانٍ مفضلٍ للذاكرة الوطنية . يمكن أن يصل في ذلك درجات غير مسبوقة. وقد وصل إلى حد أنه أمر «بوضع قوات الردع التابعة للجيش الروسي في حالة تأهب للقتال»، بناء على ما اعتبره «التصريحات المعادية الصادرة عن حلف شمال الأطلسي».. كان السلاح النووي دوما حاضرا في توازنات الرعب بين الغرب والشرق، لكنه كان مثل سلاح جريمة لم تُرتكَب، لا يتم الحديث عنه في العلن، كان مثل عاهة تزيد القوة وتحمل في طياتها خزيها الأخلاقي. من يملك ذلك، يصل إلى نهاية البشرية..