أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينكوف، أمس الخميس، أن القوات المسلحة الروسية بدأت، بقرار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عملية عسكرية خاصة لحماية «جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك» وقال المتحدث: «وفقا لقرار القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية فلاديمير بوتين، في 24 من فبراير، بدأت القوات المسلحة الروسية عملية عسكرية خاصة لحماية جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين». ولعل الأهم في بلاغ بوتين العسكري هو الفقرة التي يقول فيها إن: « القوات المسلحة الروسية تقوم باستخدام الأسلحة عالية الدقة بتعطيل البنية التحتية العسكرية ومنشآت الدفاع الجوي، والمطارات العسكرية وطيران القوات المسلحة الأوكرانية فقط». وما من شك أن الحرب صارت واقعا أوروبيا أوأورو آسيويا مما سيقلب المعادلات الجيوسياسة في شرق أوروبا وفي غربها، بعد أن فشلت كل المساعي الديبلوماسية في نزع فتيل الأزمة… ظاهر الحرب الإعلامية الأولى لا أحد كان يتصور، خارج كتاب السيناريو في مدينة هوليود السينمائية، أن الغرب وروسيا، سينقلان حربا تتم في المجال السبيرنيتيقي إلى المجال الواقعي.. لحسمها! فخلف الجبهة الأوكرانية، كان لافتا أن الإذاعات والقنوات، وما تبقى من ورق مكتوب في عالم الصحافة، تتحدث عن البلدان، من إستوانيا الى أمريكا، مرورا بأوروبا كلها، التي تعرضت للهجمات السيبرنيتيكية التي تطلقها موسكو على العالم الغربي وحلفائه. هناك جبهة طويلة وعريضة، تحتاج إلى «جبهة صحيحة» من بوتين لغزوها، وهذه الجبهة تبدأ من المصالح الأمنية والعسكرية الفدرالية لأكبر دولة في القرنين العشرين والواحد والعشرين، مرورا بالخزينة العامة، والمصالح الصحية وصولا إلى المقاولات، كلها كانت حدودا حربيا في الهجمات المنسوبة إلى الروس.. والغريب أن مجلس الأمن القومي الأمريكي، الذي كان موضوع تشكيات سابقة، في بداية القرن بتهمة التجسس على العالم بواسطة عينه التي لا تنام «ايشلون» nolehcE صار هو نفسه في موقع الضحية.. وكان مثيرا أن بلادا لا تنتج حواسيب خاصة بها، ولا هواتف ماركة روسية ولا آلات غسيل، بلاد تتعرض للتنكيت الغربي بأن « العنصر الوحيد في الليموزين الروسية، هو… السائق!»،هذه البلاد هي التي تتهم بالحرب الإلكترونية . ولا يعرف الخبراء ما إذا كانت الحرب ال»سبيرنيتيقية «مصطلحا دقيقا أم لا، لكنهم في الواقع يسلِّمون بأنها اختراق معلوماتي أو تجسس معلوماتي رقمي.. ومن هنا ينبع السؤال الفلسفي: كيف تسعى الدول الكبرى إلى حسم حرب، ظاهريا،لا جثث فيها ولا دماء ولا أنقاض وخرائب بحرب تقليدية تخلف القتلى في أوساط الجنود من الطرفين، وتخلف آلاف الموتى وربما خرابا لم تعرفه أوروبا في فصول ساخنة من الحرب الباردة؟ نفهم من حيثيات الحرب التي تمت رقميا أن الرأسمالية متوحشة كانت أو رقمية لا تمزح مع هذا النوع من الحروب عندما تمس قرابة 80٪ من الهياكل الأمريكية الكبرى وأغلبية الموسسات الحكومية في الدفاع وفي محاربة التجسس … لقد تسربت روسيا إلى عقل الأمريكان الباطني، إلى العقل الرقمي، الذي يحدد القرارات والاتفاقيات، وهذا التسلل تسربه أحدث شرخا في الثقة في المعلومات وفي الأنظمة التي تصوغ القرار، إنه يرابط بداخلهم، كخلية نائمة تستيقظ في أي وقت... سيناريو منسي في حقيقة الأمر، يذكر السيناريو الحالي لاشتعال الجبهة الشرقية لأوكرانيا على حدود «دونيتسك ولوهانسك» بنفس السيناريو الذي وقع، منذ 14 سنة، على حدود جورجيا، مع منطقتين اثنتين دخلتهما الدبابات الروسية، وفصلتهما عن الجمهورية الجورجية… في غشت 2008، دخلت القوات الجورجية مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا المواليتين للروس، فجاء الرد الروسي في اليوم الموالي مباشرة حين دخلت القوات الروسية إلى جورجيا وقصفت مدينة غوري ومطار مارنيولي العسكري بشرق جورجيا ومرفأ بوتي على البحر الأسود. فالذي حدث وقتها، بما فيها استهداف المطارات، هو أن بوتين أمر دباباته بمحاصرة جورجيا ودخول أراضيها، والنتيجة كانت لصالحه حيث أصبحت تحت إمرته ووصايته ولم يعد أحد يثير قضية المنطقتين اوسيتا وابخازيا، كما ألا أحد يتحدث عن انضمام جورجيا…. إلى الحلف الاطلسي! هذا السيناريو يتجدد ويتكرر تقريبا بحذافيره…بعد ست سنوات …وما زال العالم يذكر ما وقع في 2014: فقد غزت روسيا مناطق أوكرانية وضمت منطقة شبه جزيرة «القرم» ذات الحكم الذاتي وقتها، أعقبها اندلاع حرب في «أوبلاست دونيتسك» و«لوغانسك أوبلاست» بين الانفصاليين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية، والفصل الثاني هو ما نعيشه الآن… لماذا أوكرانيا الآن وقبلها جورجيا؟ في التاريخ ما بين الأزمتين، الجورجية والأوكرانية، اقترح فلاديمير بوتين، في دجنبر 2012 ، نقطتين للخروج من الأزمة ورفع الضغط على أوكرانيا تحديدا: 1 أولاهما التدوين السياسي الرسمي والاتفاق كتابيا وبحشود دوليين " بعدم التحاق أوكرانياوجورجيا بحلف الناتو مهما كان المستقبل الممكن، وتطورات الأوضاع الدولية». وهي نقطة مهمة للغاية، من حيث الحدود المتعلقة بالمجال الحيوي لروسيا، وكذا التوازنات المرتبطة بالأمن القومي الروسي، في العقدية الروسية الجديدة. وفيه كذلك، نوع من الثأر الذاتي لبوتين. فالقيصر القوي اليوم، كان يحلم في بداية حكمه بالانضمام إلى الحلف الأطلسي بخلق"كيان جديد تصبح فيه روسيا شريكا على قدم المساواة " مع الغربيين .. لكن الغرب في أمريكا وأوروبا يجهل هذه الأمنية، وتمادى في استصغار روسيا.. وزاد من تأزيم الوضع أن الوعود الشفهية بعدم توسيع الناتو شرقا لم يتم احترامها… وبدأت سلسلة التحاقات بحلف الناتو ، فانضمت هنغاريا -المجر، وتلتها بولونيا وجمهورية تشيك، ثم أعقبتها في بداية 2000 بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا ودول البلطيق…. وبدا للروس، كما لبقية العالم الغربي نفسه، أن سياسة أمريكا تحددت بوضوح، وذلك بالعمل على الرفع من عدد ال"زبناء" المحتملين لمركبها العسكري الصناعي، وأفضلية السلاح الأمريكي على السلاح الأوروبي، عند الدول الجديدة، وربما فكر فلاديمير بوتين بأن الغرض من ذلك هو منع أي تحالف أوروبي روسي قد يهدد الهيمنة الأمريكية… النقطة التي ستفيض الكأس الروسي هو قرار 2008 بضم "أوكرانيا" و"جورجيا" إلى الحلف وهو ما فجر غضب موسكو ورفع درجة سعارها... فكان الذي كان من ضم القرم، ثم ابخازيا وشقيقتها ايستي الجنوبية، وهاهو يكمل الدورة بحيازة جيوسياسية لمنطقتي اوكرانيا المحسوبتين على الجالية الروسية.. وأوكرانيا التي تسميها كتب التاريخ "روسيا الصغرى"، يعتبر سيد الكرملين ألا أحد يمكن أن يجبره على التفريط فيها لاعتبارات جيواستراتيجية وللارتباط التاريخي بينهما، وهناك من يعتبرها قلب روسيا حتى.. فالواقع الآن، بعد الهزتين في 2004 و2014 في أوكرانيا ، تحركت الدبابات الروسية لضم القرم التي تسلمتها أوكرانيا من خروشوف في 1954، العضو في الاتحاد السوفياتي "ديالا فديالنا"… 2 ثانيهما نزع السلاح، جزئيا، عن الدول التي التحقت بالحلف الأطلسي في التسعينيات، بعد انهيار روسيا السوفياتية.. والواضح من هذه النقطة أن "بوتين" يريد إعادة النظر في ما وقع في الفترة التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي وجدار "برلين" ويعيد ترتيب الأوراق والخرائط والتحالفات بما يجعله يسترد إرثا جيوسياسيا ضاع من بلاده في صيغتها الكورباتشوفية.. روسيا وهوامش العالم الجديد يتفق الكثير من المراقبين أن علاقة الأمريكيين بروسيا الحديثة هي اليوم أسوأ بكثير من أيام الحرب الباردة والاتحاد السوفياتي الذي كان يمثل تهديدا حقيقيا وأكبر وأخطر .. وسبق لمهندس الديبلوماسية الأمريكية الثعلب هنري كيسينجر أن قال "لم نقم بأي مجهود لإشراك روسيا في الهندسة الأمنية لأوروبا"…وهو ما لم تنتبه إليه أوروبا، التي يبدو أنها ستكون الخاسر من المواجهات الحالية ولم تقم بما يجب من أجل استعادة دورها بين الشرق والغرب، بل لم تدافع عن وجودها، وبقيت يتيمة الحلف الأطلسي، عندما اتجهت أمريكا باتجاه استراليا وبريطانيا ضمن حلف الكاواس.. لقد وجدت الدول العظمى الأوروبية نفسها في وضعية العجر والاستحالة المطلقة على توقع القادم من الأوضاع.. أوروبا في حالة ضعف وروسيا تريد استغلال ارتباكها لتكون القوة العائدة..ضمن حدودها الجيواستراتيجية.. كما أن الغرب لن يحارب من أجل "أوكرانيا"، وإن كان من المحتمل أن يستغلها كساحة للتفاضل وجعل ميزان القوى يميل نحوه ولو على …جثث جنودها ! ولن تعوزنا التشبيهات هنا في اعتبار الكرة الأرضية في الجهة الغربية من أوكرانيا تشبه طنجرة الضغط كوكوت مينوت بحيث يزداد الضغط وتصفر الطنجرة لكي يسمع الغرب ما تريده موسكو.. يشعل بوتين سيجارة وينبعث الدخان لكي تغرد وتزغرد كل أجراس الإنذار وآلاته ويعرف القاطنون في فندق كبير اسمه العالم أن النار توشك أن تحرق الحميع… وفي المحصلة، روسيا تريد ربما جدارا من حرير، عوض جدار الحديد الذي كان يفصل أوروبا قديما في عهد الحرب الباردة، جدار حريري رطب الملمس، يفصل بين دائرة نفوذها ودائرة نفوذ الغرب، بغير قليل من الرعب على مستوى أوكرانيا..