هل يمكن الحديث عن حصيلة المنجز الوطني في مجال البحث التاريخي خلال سنة 2021 بدون استحضار الشرط الموضوعي الذي أرخى بظلاله القاتمة على العالم في ظل أزمة الجائحة، وثقافة الجائحة، وإكراهات الجائحة؟ فلقد شكلت سنة 2021 محطة استثنائية في تاريخ البشرية، إذ حملت الكثير من البياضات على مستوى التراكمات الثقافية والفكرية والإبداعية لمجموع أمم العالم.وفي المغرب، حملت التطورات ارتدادات جمة على حقل تلقي المعارف والعلوم، فدخلت آليات تعميم المعرفة التاريخية موجة من الكمون المستدام، حيث تقلصت الإصدارات إلى حد كبير، وتراجع مجال العطاء الأكاديمي المتخصص، وتراجعت آليات تبليغ المعارف التاريخية مثل الندوات والبرامج السمعية البصرية والدوريات المتخصصة. واتضح أن البحث التاريخي أضحى واحدا من بين ضحايا الحجر الصحي الذي طال حقل الإنتاج العلمي بعد أن فرض عليه توقفا اضطراريا جعل الكثير من المشاريع العلمية المرتبطة بالبحث التاريخي تنحو نحو الانتظار ونحو التأجيل. ونتيجة لهذا الوضع الاستثنائي، جاءت الإصدارات في شكل استثناءات محدودة لم تستطع تحقيق التراكم المعرفي الذي كان من المفروض أن يعيد ربط الصلة بتجارب التأسيس والإبداع، سواء على مستوى الاجتهادات الفردية والأطاريح الجامعية، أم على مستوى الإصدارات المتخصصة، أم على مستوى التجارب الجمعوية، أم على مستوى التوثيق السمعي البصري والأنشطة المرتبطة به. ومع ذلك، فقد برزت أصوات سعت إلى تحدي الجائحة، رافعة صوت العطاء التاريخي، وخاصة داخل هيآت أكاديمية وعلى رأسها المؤسسات الجامعية والمعهد الملكي للتاريخ ومؤسسة أرشيف المغرب والمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وإطارات جمعوية مبادرة ومؤسسات مدنية مستقلة، مثلما هو الحال مع الجمعية المغربية للبحث التاريخي، والمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ومؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، وجمعية تطاون أسمير، ومؤسسة الشهيد امحمد أحمد بن عبود بتطوان، ومؤسسة عبد الخالق الطريس للتربية والثقافة والعلوم، وجمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، ومركز محمد بنسعيد أيت إيدير،… وفي جميع الحالات، ظلت المبادرة في يد باحثين متفردين، موزعين عبر أقاصي الجهات، اعتمدوا على إمكانياتهم الذاتية لتخصيب تجاربهم ولتطوير اهتماماتهم ولتعميم نتائج تنقيباتهم. فعلى مستوى الأعمال القطاعية والمونوغرافية، عرف المجال صدور دراسات متخصصة، توزعت في اهتماماتها بين مقاربة قضايا متنوعة داخل الحقب المتراتبة لتاريخ المغرب والقديم والوسيط والحديث والمعاصر والراهن، وهي الإصدارات التي أضفت دفئا خاصا على مجال تلقي المعرفة التاريخية، وخاصة على مستوى قضايا الزمن الراهن، مثلما هو الحال مع إصدارات الأساتذة إبراهيم ياسين وعكاشة برحاب والطيب بياض، حيث تداخلت أسئلة المؤرخ مع إكراهات ضغط المرحلة وتفاعل ذات الباحث مع قضايا محيطه، مثل المشاكل الحدودية بين المغرب والجزائر، وقضايا العلاقات الملتبسة بين الأمير عبد القادر الجزائري والسلطان عبد الرحمان بن هشام عقب احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، وتمثلات المغاربة تجاه واقع دولة الصين وتطوراتها الحضارية الكبرى، وقضايا الأوبئة وتأثيراتها على التطورات المميزة لتاريخ المغرب. وفي مجال الدراسات المونوغرافية، عرفت سنة 2021، ترسخا للتوجهات العلمية المنشغلة بالقضايا المجهرية داخل أقاصيها البعيدة عن المركز، مثلما هو الحال مع دراسات الأستاذ نور الدين صادق حول ماضي مدينة تارودانت، ودراسات الأستاذ رشيد العفاقي حول حاضرة طنجة، ودراسات الأستاذ نور الدين فردي حول ماضي مدينة الدارالبيضاء وأحواز الشاوية. والملاحظ في هذا الباب، ارتياد مجال البحث التاريخي لنخب لا تنتمي -بالضرورة- لحقل التخصص التاريخي، مثلما هو الحال مع الأستاذ الطيب أجزول في دراسته حول النظام الإداري بالمنطقة الخليفية خلال عهد الاستعمار، أو مع الأستاذ محمد الصديق معنينو في كتابه حول «قراصنة سلا» أو في كتابه حول سيرة السلطان مولاي إسماعيل. وفي مجال الدوريات المتخصصة، حملت سنة 2021 أعمالا متميزة على صفحات منابر متخصصة، على رأسها دورية «هيسبريس تمودا» التي تصدرها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ومجلة «المناهل» الصادرة عن وزارة الثقافة، ومجلة «أمل»… وهي أعمال أتاحت للباحثين فرص تطوير التراكم وصقل التجارب وإغناء المعارف، وقبل ذلك، توسيع دوائر النقد التاريخي بأسئلته التفكيكية المواكبة لعطاء النخب المنتجة للمعرفة التاريخية. وفي مجال الترجمة، برزت أسماء وازنة ربطت بين الاشتغال الأكاديمي والتأصيل المنهجي لشروط إنجاز الترجمة العلمية الوفية لمنطلقات التعاطي الأكاديمي الصارم. وأخص بالذكر، في هذا الإطار، الأعمال الرائدة للأستاذ خالد بن الصغير الصادرة ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وكذا أعمال الأستاذ عثمان المنصوري الصادرة مؤخرا، باعتبارها واجهة مغربية مشرعة على البيبليوغرافيات البرتغالية التاريخية، وخاصة منها تلك التي تغطي المرحلة الممتدة بين القرنين 15 و20 الميلاديين. أما الندوات العلمية، فقد حافظت على خفوتها في ظل وقع الإجراءات الاحترازية المرتبطة بالجائحة. ونتيجة لذلك، ألغيت العديد من الندوات التي كانت مبرمجة خلال الفترات السابقة، وتم تعويضها بندوات رقمية ارتكزت على التواصل «عن بعد»، وهي التقنية التي لم تخلف -في الغالب- الأثر المباشر، باستثناء الندوات التقييمية المرتبطة بالاكتشافات الأركيولوجية التي حملتها سنة 2021 في محيط مدينة الصويرة. وعلى مستوى المذكرات وسير الأعلام، برزت أعمال موزعة بين جهات البلاد، حاولت التوثيق لسير الأعلام وللتعريف بالعائلات المحلية، مثلما هو الحال مع مذكرات المقاوم مولاي عبد السلام الجبلي وكتابات الطيب أجزول حول عائلة زيوزيو بتطوان. وعموما، فقد عرف هذا المجال تراجعا ملحوظا بالنسبة لوتيرة الإصدارات مقارنة مع سنوات ما قبل الجائحة. وفي المقابل، عرف نشر الأطاريح الجامعية ارتفاعا مثيرا في أعداده، وخاصة بالنسبة لسلسلة الإصدارات التي رأت النور ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير. وعلى الرغم من الأهمية الأكيدة لرصيد هذه الإصدارات، فإن أسئلة «الجديد» تظل مشروعة بهذا الخصوص، إلى جانب العديد من الثغرات المنهجية التي تحد من الصرامة العلمية في تخريج مثل هذه الأعمال. لذلك، فالكثير مما صدر بهذا الخصوص، لم يضف «شيءً يذكر» لأسئلة البحث التاريخي الراهن، بأدواته الإجرائية المعروفة، وبرؤاه الصارمة في التقييم والتقويم، وبحسه النقدي الذي يضفي على البحث التاريخي قيمته العلمية الأصيلة كما هو متعارف عليها في الدوائر الأكاديمية المعروفة. وفي الكثير من الحالات، تحولت مثل هذه الإصدارات إلى مجرد أدوات لإعادة «تدوير» المعرفة التاريخية، في غياب رؤى نسقية لوظائف الكتابة التاريخية النقدية المجددة. وفي المقابل، تعزز المجال الأركيولوجي بالاكتشاف الهام الذي حققه فريق دولي من علماء الآثار والذي يهم قواقع بحرية بمغارة بيزمون الواقعة بالقرب من مدينة الصويرة، وهي القواقع التي شكلت أقدم الحلي في تاريخ البشرية، إذ أنها تعود إلى حوالي 150 ألف سنة. وفي شهر شتنبر الماضي، اكتشف علماء الآثار بإحدى الكهوف الواقعة بالقرب من مدينة الرباط، أدوات من العظام كانت تستعمل في صنع الملابس يعود تاريخها إلى أكثر من 120 ألف سنة. وبموازاة مع تزايد الاهتمام بقضايا التاريخ العام، حملت سنة 2021 انفتاحا متواصلا على قضايا التاريخ الثقافي، من خلال مد الجسور مع تجارب الكتابة والإبداع والتفكير في مختلف مجالات الآداب والفنون والفكر والثقافة. في هذا الإطار، يمكن الاستدلال بالأعمال المؤسسة للأساتذة عبد الفتاح كيليطو، وشفيق الزكاري، ورضوان احدادو، وخالد أمين، وحسناء داود… وهي الأعمال التي تساهم في إعادة ربط الجسور بين مختلف مجالات الإبداع الجمالي من جهة، وبين شروط التوثيق لتطور الذهنيات المغربية، كما تلاقحت على امتداد العهود الزمنية الطويلة الماضية. يطرح التراكم الحالي لسنة 2021، سؤال الهوية العلمية «للمدرسة التاريخية الوطنية»، خاصة على مستوى تجديد مفهوم الوثيقة التاريخية، وتوسيع لوائح البيبليوغرافيات، والانفتاح على الرواية الشفوية، وتكثيف التنقيب الأركيولوجي، وتفكيك خطابات الأعمال الإبداعية نظما ونثرا وتشكيلا ومسرحا… لا شك أن المجال لايزال بكرا، ولا شك أن آفاق الدراسة تظل واسعة، فتاريخ المغرب يكتسب كل عناصر التحفيز بالنسبة لجهود توسيع دوائر البحث والتقصي. باختصار، فالموضوع مرتبط بتجديد ذهنيات القراءة، وبسقف التأويل، وبحدود الاستثمار. وهي محطات تجعل من حصيلة المنجز المغربي، رهانا مفتوحا على أسئلة البحث التاريخي المعاصر، تأصيلا للمنطلقات النظرية المؤطرة، وتوظيفا لنتائج البحث المجهري الصارم والمتأني.