أتذكر ذات زمن، وأنا أشاهد التلفزيون، برنامجا تلفزيونيا وثائقيا: برنامج تلفزيوني يؤرخ للانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ مواجهة مباشرة بين المترشح الديموقراطي، آنذاك، جاك كينيدي ومنافسه الجمهوري… وكان كنيدي الأب يتابع المواجهة على التلفزيون.. انتهت المواجهة بتفوق مقنع لجورج كنيدي، وعلق الأب بعبارة قصيرة ودالة، فيها الكثير من الانتشاء والافتخار والاعتزاز "هذا ابني" Celui là est mon fils. وأنا اليوم، الاثنين 16 غشت 2021، أتابع مرور الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي الأستاذ إدريس لشكر في برنامج "انتخابات 2021″ على القناة الثانية، وبكثير من الزهو والافتخار، تذكرت كنيدي الأب فقلت: هذا قائدي، هذا إدريس لشكر الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي… تحدث بثقة في النفس؛ ثقة مؤسسة على وضوح الرؤية ووضوح المشروع، تحدث بلغة واضحة تجسد وضوح الفكر؛ ناقش وعالج مختلف القضايا التي تشغل الرأي العام في الفترة الدقيقة و"الحرجة" وفي زمن الانتخابات… تحدث بواقعية صريحة وصادقة بعيدا عن لغة الخشب والشعارات الفضفاضة… استعرض الخطوط العريضة للبرنامج الانتخابي للاتحاد الاشتراكي في الانتخابات المقبلة… قارب بدقة وموضوعية، بهدوء وحكمة، قارب مختلف القضايا الكبرى والصغرى التي تشغل المغاربة في زمن الجائحة؛ (التعليم، الصحة، الشأن العام والمحلي، النساء والشباب….)، لم يزايد ولم يوزع الوعود… شخص واقترح… لم يكن متشائما…. ارتقى عن لغة اليأس والتيئيس…. لم يكن عدميا؛ فالمغرب ليس في وضعية سيئة بل ما تراكم من إنجازات يجب تسجيلها، ويجب التوجه إلى المستقبل بروح تفاؤلية… لم يكن سجين ثقافة نصف الكأس الفارغة بل المنطلق هو نصف الكأس المملوءة…. الأستاذ إدريس لشكر لم يكن انتخابويا، لذا اعتمد لغة صريحة وشفافة… ابتعد عن الخطاب المغالطي الذي يدغدغ العواطف والمشاعر والذي يخادع الجمهور… إن حديث الكاتب الأول حديث متماسك ومتناغم تحكمه وحدة الفكر ووحدة الرؤية… مؤسس على ثوابت مبدئية وقناعات سياسية… حديث أصيل ومتأصل يجمع مكوناته ناظم مشترك هو المشروع الاتحادي؛ الاشتراكي الديموقراطي الحداثي… أساسه هو الإرث الاتحادي النضالي وبوصلته هو التفكير الاتحادي المبدع والمستقبلي… حديث عقلاني، بعيد عن حماس وانفعالات اللحظة حديث عقلاني واعي وهادف يحاصر الشعبوية التي تروم السيطرة على الوجدان بخطاب عاطفي مغالطي والذي تأثيره مؤقت في الزمان والمكان… حديث متناسق منطقيا، يشكل بنية… موحد من حيث الثوابت التي تحمي من الوقوع في التناقض… التناقض الذي وقع ويقع فيه الكثير من الزعماء السياسيين الذين يسقطون في التناقضات من مناسبة إلى أخرى…. الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي لا يلغو؛ يتكلم ولا ينسى أنه يفكر، يفكر ولا ينسى أنه يتكلم مستلهما تاريخ الاتحاد الاشتراكي في المسار والصيرورة ومستحضرا التجربة الذاتية الضاربة جذورها في السبعينيات…. إن حديث الكاتب الأول حديث عميق لأنه، أولا، صادر عن الاتحاد الاشتراكي وعن كاتبه الأول، ولأنه، ثانيا، يأتي في سياق سياسي واجتماعي دقيق، ولأنه، ثالثا يروم رفع الجمود والرتابة التي أصبحت تهيمن على حياتنا السياسية، ولأنه رابعا يتوخى السمو على لغة التهريج، تبادل التهم والسب ويتوخى القطع مع لغة الشعارات الفضفاضة والوعود الشعبوية…. إن حديث الكاتب الأول صادر عن رؤية تحليلية ونقدية، رؤية اتحادية لتنمية الإنسان والمجتمع…. إنه رؤية بنيوية وجدلية للسياسة والمجتمع.. للتشخيص والبديل.. الاختلالات والاقتراحات… إنه، إذن رؤية بنيوية وجدلية؛ -رؤية بنيوية لأنه يشكل نسقا فكريا منسجما تفكيرا وبناء، نسقا بعناوين كبرى (الإعدام، إصلاح المنظومة الانتخابية، حكومة الوحدة الوطنية، الجبهة الوطنية، البلوكاج الحكومي السابق، الأغلبية والمعارضة، المظلومية والبكائية، دعم الفنانين، الفصل بين الانفعال والعقل في مسألة اغتصاب وقتل الأطفال، القطاع غير المهيكل والسجل الاجتماعي، الشأن الحزبي الداخلي، المصالحة والانفتاح… وقضايا أخرى كثيرة..) نسقا فكريا سياسيا متماسكا منطقيا، والخيط الناظم هو المنظور الاتحادي اليساري، الاشتراكي الديموقراطي الحداثي… رؤية بنيوية لأنه خطاب يحمل الصدق داخله، من هنا يرتقى عن لغو الكلام… -رؤية جدلية لأنه ليس خطابا نظريا يتوخى الصدق الداخلي فقط؛ انسجام الفكر مع نفسه… بل إنه حديث جدلي تاريخي؛ حديث سياسي بحمولة واقعية ملموسة، يتوخى الصدق الواقعي؛ انسجام الفكر مع الواقع… رؤية جدلية لأن الحديث يطرح مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والتنظيمية في ترابطها وتفاعلها وصيرورتها التاريخ… من القضايا التي قاربها الأستاذ إدريس لشكر، قضية اليسار ووحدة اليسار، وهنا أيضا ابتعد عن الطوباوية والميتافزيقا، عن تمجيد الذات والصنمية الثورية: أن وحدة اليسار الجادة والممكنة هي أن يدرك اليسار وحدة مصيره وأهدافه الكبرى، وألا يخطئ في تقديره لخصومه وأعدائه الحقيقيين، وألا يتواطأ معهم، وألا يخدمهم ضدا على أسرته اليسارية، وأن ينصرف إلى تأطير المجتمع باسم القيم اليسارية كل حسب منطقه وطاقته… أن الروح التمجيدية والطوباوية لن تؤسس وحدة اليسار.. إن وحدة اليسار هي أن يكون موحدا حازما في القضايا الكبرى والمعارك المصيرية ضدا على كل ما هو مناف لقيمه ومبادئه… وحدة اليسار هي تآزر فكري سياسي، عملي دائم ومستمر، حول الجوهر، ولا يمنع بل يشترط استمرار الحوار والجدال والنقد داخل أسرة اليسار. أن المطروح على اليسار هو التجذر في المجتمع وتعبئة الطاقات النسائية والشبابية لا كشعار فقط، بل كممارسة وانشغال يومي وبالتالي طرح برامج واقعية حتى لا ينغمس في طروحات طوباوية تتجاوز المعطى الموضوعي وتصنع فكرا شاذا في عالم تتسارع وتيرة التحولات فيه، واعتبار الانتخابات كأسلوب للتداول على السلطة. إن الاحتكام يكون أولا وأخيرا لسلطة الشعب، والاقتراع العام، أي الانتخابات التي وحدها تعطي الشرعية لكل مكون من مكونات الحياة السياسية المتصارعة… وبغض النظر عن التفاصيل يجب أن نتفق على مبدأ التصويت اليساري الذي يلزمنا جميعا.. إن مستقبل اليسار في المغرب يتوقف على مدى قدرته على التعرف على نفسه، أو إعادة التعرف على نفسه، لا كطرف مقابل ليمين ما اقتصادي أو إيديولوجي، بل أولا وقبل كل شيء كمبشر بالأهداف التاريخية التي تطرحها المرحلة الراهنة، كمدشن لعملية الانتظام الفكري حولها، وكقوة دفع للعمل على تحقيقها؛ إن هذا ما يجعل اليسار، أو سيجعله، ذا مستقبل. سنعود إلى تفاصيل محاور البرنامج… وسنفصل في كل القضايا التي طرحها الأستاذ إدريس لشكر… انتظرونا في سلسلة مقالات…