من أنت أيها الرفيق الغريب…. يا المدى المجهول وشقيق المغامرة؟… أيها البحر طالعا من دفاتر المهاجرين، من أنت من أنت؟ حامت الأسئلة تتراءى في الليل البحري الغامض… والرجل النحيل الصامت يواكب موجا يتلاطم، والفنار الوحيد يلوح واهنا بعيدا، يتدفق الليل الخريفي ثقيلا هامدا والوجل يتوسد حقيبة صغيرة، وبقايا دراهم عليه أن يسددها لمن سيحمله في زورق الليل مهاجرا إلى المجهول… صفقه يعرف أبعادها جيدا وفحواها إنه لن يعود..فالبحر وخباياه يحملان نذر اللاعودة… وكل أولئك العابرين سيحملون تابوته الوقت معهم إذ قد يداهمهم حرس السواحل، فيتهاوى زورق الغرباء إلى القاع. يا نذير الراجلين يا أصدقاء الوهج القديم من هؤلاء؟… ومن أولئك… ما بقي منهم ، فتشوا أوراقه وتفرسوا في ملامحه، وسألوه مرارا لأنه كان قد ألغى قصائد الترحال وأحل جنون المغامرة ولا يركب موجة التغيير عن مكونات روحه، روحه الوحيدة الأسيرة التي تمردت على ثلة المعاصرين الذين جاؤوه بأمواج الحداثة، وتفرقوا فجأة بلا ملاذ، أفقر المكان، وغاب عمال الميناء، وتفرقوا عبر الساحل الطويل… تفرقوا قرب مراكب الصيد وبواخر شحن. ابتلعتهم تلك الطقوس البحرية ووزعهم البحر أثاثا لمشهده اليومي، كان هناك كهل قصير القامة يحمل طيرا ويدور به، ويعلن عن صفاته طائر من وراء البحار… أشبه بالببغاء… انتظمت على جناحيه وذنبه ألوان متدرجة جميلة، ولكنه مثل تمثال حجري…لا تصدر منه كثير من الحركات، ولا يسمع منه صوت… قال إن للطائر هذا وقتا لينطلق أو يتجلى، فيغني ويردد ويصفر ويتمايل راقصا… ألقى تلك السيرة المشوقة عن الطير بلهفة بسيطة سريعة ممزوجة بكلمات انسيابية موجها كلامه لأي شخص في المكان دون تحديد. حمل الآخر حقيبته وخرج من المشهد. … تقفقت الرائحة العتيقة نفسها تلك التي كان يشمها في بعض المدن لا تتضمن هويتها إلا بالمدينة. بيوت واطئة بواجهات بيضاء وسقوف رخامية كانت تطل عبر النوافذ. وجوه صغار شاحبين ونساء طلين وجوههن بزينة لامعة.. كان هو مثل فرس جامحة لأشياء شتى… إذ غابت صورة المكان من حوله، وسأل نفسه إن قد ترك هناك صبيا يشبه هؤلاء الصبيان تركه في مدينته على رياح الخطوب… وإن كانت هناك امرأة ما… تكتب له أن هذا اليوم هو يوم مولده… وتسأله عن عنوانه، وقصائده القديمة. تجمد إحساسه فجأة، يحاول أن يجد عنوانا لهذا السيرك الذي يمر من حوله… وهو يقود الامتداد من المشاهد… وقد حفرت في ذاكرته، وشما عميقا، بعدما قال كلمته وبقي هناك رفاق يذكرونه . مع هذا كله، بحث عن مكان.. عن أرض تصل إليها أوراقه تلك… وذلك الصبي… ولكنه ظل كما كانت أزقة ودروب ضيقة وفنادق رخيصة… واصل سيره عبر الزقاق ليجد الشخص نفسه بانتظاره، أعطاه الخريطة كاملة تشير الى المكان الذي سينزل فيه… والى الطريق الذي سيسلك والساعة التي سينطلق فيها، لم يبق من الزمن إلا القليل… عندما شاهد عبر نافذة حجرته الضيقة، رجلين وفتاة يسيران في غمامة ليلة حالكة… ولا يسمع إلا صوت سيارة إسعاف من بعيد… عندما اقترب من المشهد تحاور الثلاثة بصوت مسموع، كانوا بالنسبة إليه ذئابا يتنازعون على غنيمة. فجأة هجم أحدهم على الفتاة، واقتلع قلادتها من رقبتها، فصرخت فيه، وشتمته وضربته بحقيبتها، فتناثرت محتويات الحقيبة وإنشغلت الفتاة بلملمة ما تناثر، أما الأخوان فقد اشتبكا في معركة شرسة، تبادلا فيها الأدوار، والفتاة بينهم تحاول أن تحصل على قلادتها… وفي الحين انطلق صراخ مزعج في ليل المدينة الجاثم، وتهاوى رجل مطعون، فتاة جريحة، أغلق النافذة، عاد مسرعا إلى سريره البارد وبعينين محدقتين إلى السقف. **************** استيقظ البحارالعجوز، والمهاجر العنيد على صوت صاحب النزل، وهو يوقظه مع الفجر ليلحق بالزورق… جمع أشياءه سريعا وخرج مسرعا… كانت المدينة تغط في بقايا سباتها ولا وجود إلا لحركة لسيارات، وعربات وعابرين… سرعان ما وجد نفسه في المكان المطلوب، انطلق الزورق السريع مع مجموعة من العمال المضطهدين، والشباب، وبعض الفتية الصغار، تواصلت فصول الرحلة مع وقفات قلقة، وتحسب للمجهول. مضى النهار.غاص الزورق في العتمة، توقف كل شيء، وأعلن قائد الزورق، أن حدود تلك البلاد تلوح في المدى المنظور، أضواء خافتة، وبعد مدار قلق تسربت بهجة مكتومة الى أرواح الطالعين الى المجهول، وراح كل واحد يعيش أحلام يقظة، ويرى كائنات براقة من النور وسط ذلك المعتم، والأفق الحالك…يا بحر الغرباء، وملاذا العابرين، أيها القاتم المقيم على جسد الغرباء، هل تشهد حقا لهؤلاء أنهم قادمون، وبانتظار الأحلام المؤجلة التي لا يعرفون متى ستتحقق… اندفعت قبله قلوب الراكبين الفرحين ببلوغهم مشارف الأمل انطلقت في هدوء ترنيمة الغرباء… أغنية هائمة شفافة رددها الجميع بالهدوء نفسه… تنفسوا الصعداء، وهم يتحسسون جيوبهم الفارغة بعدما أعطوا كل شيء لمجموعة من تجار الرحيل الى المجهول، فجأة اضطرب الموج… وتمايل الزورق المطاطي الوحيد الجاثم في المعركة، وفجأة اخترق الصمت الرهيب ، أنين مكتوم كصوت الفجيعة معلنا أن على الجميع أن ينزلوا فورا ويلقوا بأنفسهم في الموج. تدافع الحشد، وعلا الضجيج، والصراخ التائه في الليل البحري الطويل. ففي أي محيط تقع هذه الأمتار المرعبة، وكيف تلوح، وسط هذا الكون الغريب، وحده كان يرى القوى الكونية، تستعد للانقضاض على حلمه المؤجل… حلمه العبثي… كان يشعر بثبات عجيب، ولم يكن يأسف على شيء قدر أسفه على هؤلاء الذين احتواهم الرعب والإحساس بحافة النهاية، وهي تدنو… فمنهم من أعلن الإعتصام حتى الموت في الزورق، ومنهم من راح يبحث في الظلمة عن تجار الرحيل ليقتص منهم، ومنهم من تشربت روحه الظلمة، وغاب في وجوه، أطبق على كل شيء… تصاعد الموج… وتحايل الزورق، وسمع صوتا واحدا أو اكتر، وهو يعلن الشهادة ويلقي بنفسه. وبين الضجيج، الموج المتلاطم، وصراخ الذين لا يحسنون السباحة، لاح بين النجوم الغائرة، ضوء نفاذ سرعان ما راح يمشط النقاء وتعالت فجأة نداءات من كل مكان يعلنون الاستسلام، وفجأة، اختلط الموج ببقايا الزورق… تركوا الأوطان الجريحة… وأحلام البلاد المثخنة… وراحوا يحدقون في الفراغ… وحده الذي كان هناك… هناك في المدى المجهول.