1 وأنا أقرأ السيرة الروائية «رَواء مكة»، لكاتبها حسن أوريد، وما تحمله من زخم معرفي وفكري وعقائدي، كانت أي السيرة الروائية ترتهن للفعل والفعل المضاد. فهذا الترابط القائم بين الشرط وجوابه، جاء نتيجة إصرار الكاتب على السفر؛ لأداء فريضة الحج من جهة، وطلب الغفران من كل الذين أذنب في حقهم من جهة أخرى. فما كان للكاتب إلا أن ينهل من إسلاميات طه حسين عميد الأدب، حيث إن هذا الأخي، مرج البحرين يلتقيان في برزخ العلم والمعرفة والفكر، وذلك من خلال أهم مؤلفاته « الشيخان» و»الفتنة الكبرى» و«على هامش السيرة» و«مرآة الإسلام» وغيرها كثير. لم يكن طه حسين، بالنسبة لحسن أوريد، في رَواء مكة، سوى نموذج ووعاء لمعرفة الأصوليات العربية والإسلامية؛ وإصراره الجامد على سحب البساط من تحت أقدام الخطاب القديم، كاشفا بذلك عما يعتور مسيرته في تدبير أمور وشؤون الدين. إن ما أقدم عليه طه حسين، في مواجهة صريحة مع شيوخ جامعة الأزهر، كان ضمن مشروع كبير انخرط فيه جيل من المثقفين المصريين من مختلف المشارب الفكرية والعلمية ، بهدف القضاء على الفكر العتيق، والضرب في صميم وجوهر الفكر الوصائي المفروض على الشأن الديني المصري؛ لتخليصه من شأو الخرافة. فجاء كل من محمد حسين هيكل بكتابه الرائد «حياة محمد»، وأردفه بآخر «في منزل الوحي» وغيرهما، كتعبير عن التحرر من مرجعيات في الكتابة والتأليف. فضلا عن العبقريات لعباس محمود العقاد، وحواريات «أهل الكهف» و«محمد» لتوفيق الحكيم . فلا سبيل إلى المواجهة، حسب حسن أوريد، دون التحرر من الخرافة، التي تحد وتقمع التطور والإبدال . فإعمال العقل شرط أساسي للتقدم، واستحضار البعد الثقافي، في الصراع ضد الجهلة والخرافيين، أمر لا محيد عنه. لهذا السبب أشار حسن أوريد في السيرة الروائية «رَواء مكة» إلى أهم المنعطفات التي شكلت وعي مساره في التحصيل العلمي والفكري . فكان ذلك مزيجا من أصوليات ذات بعد أدبي إسلاموي صرف ك» لزوميات « أبي العلاء المعري، و إسلاميات طه حسين. علاوة على الأصول المادية واتجاهاتها في الإسلام لمحسن عامل والطيب تيزيني، كما أن المنزع الماركسي والقومي شكلا رافدين أساسيين من روافد المثاقفة عند أوريد، خصوصا كتابات المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، وحفريات محمد عابد الجابري في «بنيات العقل العربي» . وانتصارا للمسار الذي رسمه حسن أوريد في «رواء مكة»، يجيء الإيمان بالله كمعطى جوهري مستقل عن المظهر الخارجي؛ لأن الإسلام، حسب الإمام الغزالي، دين يمنح الطمأنينة ونور يقذف في قلب المؤمن من الداخل ليصعد هذا الوهج الباطني والروحي إلى الخارج . بالموازاة مع ذلك ، وتجاوزا لآلام العملية وبرحائها، استأنس الكاتب بحوار أجرته القناة الخامسة الفرنسية مع الناشطة الحقوقية الإيرانية شرين عبادي، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، والتي اعتبرتها بعض دوائر النظام الإيراني مدعاة للفتنة، من حيث إنها رفضت، الحقوقية عبادي، بالرغم من أنها تؤمن بالله، أن ترتدي كسائر النساء الشادور. فهذه رسالة واضحة المعالم إلى كل الذين يرون أن الاهتمام بالمظهر أصبح هو الجوهر . غير أن في إشارات متعددة لسلوكيات المسلم من قلب الإسلام الحضاري، تبعث على الاستهجان والنفور، وهذا ما استدل به حسن أوريد «في رواء مكة « عندما أشار إلى صاحب خماسية «مدن الملح». فالحضارة وجزؤها المادي الثقافي كفيل بأن يدفع الانسان إلى الانغماس في ترف ونعيم؛ فتتبدل جيناته وتتغير ملامحه وتصرفاته. وفي هذا ما وقف عليه ابن خلدون، وهو يخرج مفهوم الحضارة إلى الكون. فعرب الجزيرة تغيرت أحوالهم، وانغمسوا في ما لذ وطاب بمجرد اكتشاف الذهب الأسود؛ محرك الحياة الاقتصادية والصناعية. فالحضارة، بهذا المفهوم، حسب ابن خلدون، تعني الترف المادي، لكن هذا لا يتوافق، في الإسلام، وأصوليات السنة والصحابة، وما عرفوا به من شظف العيش؛ حيث إن همهم الأسنى، كان، هو بناء الإنسان والحضارة. 2 نهل حسن أوريد من منبعين صافيين وعذبين، ماء زلالا. ففي السيرة الروائية «رَواء مكة» نجد البعد الوظيفي للمعرفة حاضرا في التكوين الذاتي، حيث ارتسم في ذهن الكاتب المسار الذي سيسلكه، وهو مقبل بنهم وعزيمة، على تحصيل معرفي وثقافي عام لا يدرك مداه. وفي سبيل ذلك، كان العشق أكبر لرواد تشبثوا بالثقافة المغربية وأصولها، درءا للحفاظ على هوية باتت يتهددها التلاشي والذوبان في الآخر وفي العالم . إن القدوة أو صانع القرار، بالنسبة لحسن أوريد، لا ينجذب إليه بدافع انطباعي مظهري، بل يجب أن يكون أي القدوة كاريزما حقيقية، بنت بالإسمنت المسلح مسارها المنحوت بأظافرَ شعثاء على صخرة التاريخ. وفي هذا، شكلت العلوم الدينية، ونفحاتها الطيبة قطبا استقطب أوريد إلى باحاتها العطرة. فحيثما وجدت اللغة العربية مصانة، بمحسنات بديعية وبلاغية، كان الحاج امحمد باحنيني، بذلك، أول المؤثرين المباشرين في الكاتب إلى درجة الهيام والتماهي مع مناراته المعرفية. ويأتي في المنبع الثاني، محمد شفيق العارف بأسرار اللغة العربية، الماتح من ذخائرها والمستعوم في مسابحها بدون ضفاف. لقد شكل أمحمد باحنيني إلى جانب محمد شفيق رافدين، لم يشق لهما غبار من ضمن العارفين بأصول معرفية مترامية الأصول، ومتعددة الأغراض والوظائف. 3 يقول إن الخيرالدة مِلكٌ لإسبانيا رائحة الأندلس ورائحة المورسكي؛ أريجهما من أريج «رَواء مكة». هل طارق بن زياد فعلا فتح الأندلس؟ وهل كان ابن رشد فيلسوف قرطبة؟ وما عسى أن يكون ابن حزم لولا «طوق الحمامة»؟ وأخيرا، هل الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس امتداد لحضارات البيزنطية والساسانية؟ أريج «رواء مكة» اقتحام تراوح بين العقل والروح، فيه استفسار وشك وتيه في شعاب المعرفة والعلم، والعودة إلى حنين دافق؛ إلى طفولة منسية. هكذا كانت «رواء مكة « لكاتبها حسن أوريد سفرا من أجل الإيمان، من أجل معرفة حقيقية لكلمة التوحيد، وكلمة التلبية. بعيدا كل البعد عن سارتر وكامو و مونتيسكيو، وقريبا كل القرب من عبد لله العروي ومن أبي الطيب المتنبي ومن أبي العلاء المعري. مزيج من الحكمة والتبصر من أجل سيرة روائية تكشف عن أسرار الحياة، وتوحد العالم في بوتقة العلم والمعرفة.