لقد عرف تاريخ مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قيام جماعات متطرفة باغتيال مجموعة من المفكرين. فمن ابن المقفع إلى الحلاج، ومن هذا الأخير إلى فرج فودة ومحمود طه… ولن تتوقف سلسلة الاغتيالات عند هذا الحد، بل ستظل مستمرة إذا لم تعرف هذه المجتمعات تحولات ثقافية عميقة تؤدي إلى تحديثها وتمكينها من القطيعة نهائيا مع ثقافة التكفير المتأسلمة. وقد كانت التهمة التي يوجهها التكفيريون إلى ضحاياهم تتمحور دائما حول ازدراء الدين والتطاول على الذات الإلهية.. مبدئيا إن الإسلامَ لا يُكره البشر على الإيمان به عنفا، ما يعني أنه يمنح الحق لأي شخص الحق في أن يؤمن أو لا يؤمن، حيث يقول تعالى: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف، 29). وتعني هذه الآية أن السخرية من الدين لا يكون جزاؤها القتل، حيث يقول سبحانه في كتابه المجيد: «وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات لله ُيكفَر بها أو ُيستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره» (النساء، 140). تطلب هذه الآية من المسلمين أن يتجاهلوا فقط كل من يكفرون بآيات لله أو يستهزؤون بها، ولا يقعدون معهم حتى يكفوا عن حديثهم ويغيروه. لذلك، فالنتيجة هي التجاهل وليس القتل. هكذا، فحسب النص القرآني، لا يجوز لأي شخص أن يقتل شخصا لأنه مختلف عنه، أو لأن له إيمانا مضادا لدينه، أو يقدس ما يتعارض مع المقدس الإسلامي….. هكذا، فالسخرية من الدين لا يترتب عنها قتل من قام بذلك، بل على العكس، إن الإسلامَ يدعونا إلى عدم الجلوس مع هذا الشخص عند ممارسته لسخريته من ديننا. وما لا تدركه هذه الجماعات المتطرفة التي يغتال أفرادُها كلَّ من يختلف معهم وعنهم هو أن قتل هذا المختلف سيؤدي بالناس إلى أن تنفر من الدين وتكرهه. إن هاته الجماعات المتشددة لا تعلم أن الغزالي قال ذات يوم ما مفاده إن نصف الخارجين عن الدين يعود إلى عنف بعض المسلمين الذين كرَّهوا الناس في الدين وجعلوهم ينسحبون منه. لذلك فالاستهزاء بالدين أو ازدراؤه لا ينجم عنه القتل في صحيح الإسلام، لأن القتل يضعف الإسلامَ والمسلمين. أما بالنسبة لتهمة التطاول على الذات الإلهية، فمن المعلوم أن التجربة مع هذه الذات تعاش ولا يمكن أن تقال. فهل يمكن أن يتصور شخص أن النسبي يمكن أن يتطاول على المطلق؟ وهل يمكن أن يتطاول البشر على الخالق؟ فكيف يمكن التطاول على الله «الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون»؟! (السجدة، 4) وكيف يمكن التطاول على الله الذي «وسع كرسيه السماوات والأرض»؟ وهل يمكن التطاول على الله الذي هو «نور السماوات والأرض»؟ وهل يمكن التطاول على الله الذي هو «على كل شيء قدير»؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن تلحق أذى بالله ورسوله صورةٌ أو كاريكاتور، أو مقال، أو حتى كتاب….؟ يتضح من ذلك أن أفراد هذه الجماعات التكفيرية التي تغتال المفكرين لا يعبدون الله، بل إنهم يعبدون ذواتهم، حيث يعبدون صورتهم، ما يعني أنهم يضخمون ذواتهم التي يحملون صورة مرضية عنها، حيث يقول تعالى:» أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله» (الجاثية، 23). يتجلى عمى أفراد هذه الجماعات الإرهابية في أنهم يعتقدون أن الله في حاجة إلى حمايتهم. هكذا، فهم يتصورون أن الله ضعيف وهم أقوياء. وبذلك يضعون أنفسهم في تعارض مع القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: «ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز». (الحج، 74). فالله قوي عزيز، وليس في حاجة إلى هذه الجماعات المتأسلمة الإرهابية التي تتهمه بالضعف والقصور وتتوهم أنها قوية قادرة على حمايته. إنه الغني، ما يعني أن هذه الجماعات الإرهابية تضخم صورة ذاتها. هكذا، فالله عندها لا علاقة له بإله الأديان، ولا بإله الفن والحب والجمال، كما أنه لا علاقة له بأي تقليد من التقاليد الروحانية التي عرفها تاريخ البشرية. قد يموت المفكر بطريقة من الطرق، لكن الفكرة تبقى خالدة تخترق الأزمنة والعصور. لقد أجبر سقراط على تجرع السم نتيجة اتهامه بإفساد النشء، ومع ذلك ظل فكره مخلدا في المحاورات العميقة والجميلة لأفلاطون…