بطاقة: الدكتور صادق جلال العظيم (مواليد دمشق، 1934) واحد من أهم المثقفين السوريين في القرن العشرين والسنوات المنقضية من هذا القرن. غطت مروحة اهتمامه قضايا متنوعة، تمتد من نقد الفكر الديني إلى الشؤون السياسية العربية بعد هزيمة حزيران 1967، إلى حرية الفكر (ذهنية التحريم، وما بعد ذهنية التحريم) إلى الحب العذري، إلى قضايا العلمانية والديمقراطية والعولمة… وتميز دوماً بأسلوب واضح، وباستمرارية أساسية لتوجهاته الفكرية من وراء تغير المناخات الإيديولوجية وبعض أدوات التفكير. تميز الدكتور العظم منذ بداية هذا القرن بانخراطه في الحياة العامة وقضايا الحريات والديمقراطية. كان عضواً مؤسساً ل«لجان إحياء المجتمع المدني» ومساهماً نشطاً في نقاشات «ربيع دمشق» وأجوائها. ومنذ بداية الثورة أخذ موقفاً مؤيداً لها بوضوح، مع احتفاظه بمسافة للنقد والتقييم. لقد قرن الرجل القول بالعمل، مع بقائه مثقفاً، أولاً وأساساً.
ما هي رؤيتكم لآليات الانتقال الديمقراطي في سورية؟ لا أعتقد أن سورياً واحداً اليوم يملك رؤية واضحة حقاً أو تصور متماسك لكيفية الانتقال الديمقراطي وألياته في بلده بعد رحيل النظام الأسدي. إذا أوصلتنا الثورة، بصورة ما، إلى صناديق الاقتراع، سأعتبر أن حقي قد وصلني كمواطن. من الطبيعي، كذلك، أن يتطلع شعب سوريا الثائر إلى يُسر الديمقراطية بعد عُسر الاستبداد والطغيان والقهر والحرمان. تفرض الديمقراطية نفسها هنا كخيار بديل لأسباب كثيرة على رأسها طاقتها الاستيعابية لعناصر الموزاييك السوري الغني الذي هو شعب سوريا بتنوعه وتلاوينه. يعني هذا أن الديمقراطية في سوريا ستحتوي على مقدار معين من «المحاصصة» التي لا مفر منها في الظرف الحالي، إلى أن نصل إلى ديمقراطية المواطن الحر بعيداً عن الاعتبارات الأخرى كلياً، أما الآليات الفعلية للانتقال إلى الحالة الديمقراطية، فلا يمكن الجزم أو حتى التنبؤ بها لأنها تعتمد على صيرورة الثورة ومسارها الذي مازال مفتوحاً على المفاجآت والاحتمالات كلها. الواقعية تدعوني إلى أن لا أتوسع في خيالي وتوقعاتي حول هذا الموضوع، بل النظر إلى الواقع كما جرى ويجري حولي، أي في بلدان مثل مصر وتونس وليبيا ولبنان والعراق حيث وصلت تلك المجتمعات إلى حالة ديمقراطية ما قلقة ومضطربة عبر مرحلة انتقالية كان فيها الكثير من العنف والقلاقل والغموض والالتباس، على أثر أحداث جسام زلزلت مجتمعاتها وأطاحت بأنظمة حكمها. وقياساً على هذا الواقع المُشاهد، أتوقع شيئاً شبيهاً لسوريا، ربما أكثر فوضوية واضطراباً وعنفاً من النماذج الأخرى لأسباب تخص الثورة السورية وتخص الوحشية الفائقة التي لجأ إليها النظام في محاولة قمعها وإيقافها.
كيف تقيم تفاعل المثقفين السوريين مع الثورة؟ وماذا يحتمل في تقديرك أن تكون مواقع المثقفين وأدوارهم في سورية الجديدة؟ أقيمه تقييماً إيجابياً على العموم. أريد أن أذكّر هنا أنه قبل اندلاع الثورة بزمان بعيد، كان مثقفو سوريا (وما زالوا) من مالئي الدنيا وشاغلي الناس، وانطباعي هو أن أعداداً لا تحصى منهم تقف اليوم مع الثورة وتعبر عنها، كل على طريقته، وتعمل ما في وسعها على مساعدتها على الاستمرار والانتصار. أما الحفنة الصغيرة من المثقفين والفنانين السوريين الذين ناصبوا الثورة العداء أو وقفوا ضدها بحياء أو بنوع من الحياد الإيجابي أحياناً والحياد السلبي في أحيان أخرى، فهم معروفون ومعدودون جيداً ولا يشكلون إلاّ قلة قليلة، ولا ينطبق عليهم، بالتأكيد، القول العربي الشهير «إن الكرام قليل»، في الوقت الذي تمر عليهم الثورة مرور الكرام. يعيدني السؤال عن علاقة المثقف بالثورة إلى سبعينيات القرن الماضي، حيث احتدم الجدل والخلاف والنقاش والفعل ورد الفعل داخل الثورة الفلسطينية نفسها حول هذه المسألة بالذات، وأسهم في ذلك كله وشارك عدد لا بأس به من مثقفي العالم العربي من كل مكان تقريباً. أثناء احتدام هذا الجدل، كنت أعمل في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير في بيروت وكنت عضواً مؤسساً لمجلة «شؤون فلسطينية» وعضواً في هيئة تحريرها. لذا تسنى لي أن أتابع عن كثب الضجة الكبيرة المثارة وقتها حول علاقة المثقف بالثورة. أما الرموز الملخّصة للشرر المتطاير وقتها فكانت: نموذج المثقف العامل في أجهزة منظمة التحرير، مثل مركز الأبحاث ومركز التخطيط وفي صحافة المنظمة وإعلامها، وحتى في مؤسسة الدراسات الفلسطينية المستقلة عن منظمة التحرير، يقابله نموذج الفدائي أو المقاتل في الخطوط الأمامية للثورة. أما الرمز الثاني فكان «الكلمة» في مقابل «الرصاصة»، وهل تفعل الكلمة فعل الرصاصة! وما صلة الرصاصة بالكلمة وأصحابها وما إلى ذلك من كلام سخيف. في التحليل الأخير، ظل هذا الخصام الثقافي عقيماً ولم يسفر عن نتيجة مفيدة لأحد، ووصلتُ إلى قناعة بأن السؤال بالأساس غلط بغلط، وبأن المشكلة الأولية زائفة ولا طائل منها، لأن المضمر في السؤال الأساسي هو افتراض شائع بأنه لا بد أن تكون للمثقف علاقة استثنائية بالثورة هي غير علاقة الطبيب أو الصيدلي أو المحامي أو الموظف أو الانسان العادي في الشارع، مثلاً. في نظري، يُحمّل هذا الافتراض الثقافة والمثقف أكثر بكثير مما يحتملانه من الأدوار والأعباء، فالمثقفون لا يصنعون الثورات أو يقودونها، قد يمهدون لها ويحرضون عليها ويصوغون بياناتها وبرامجها وينشرون دعايتها ويكتبون أدبها وينشدون شعرها وينتجون تحليلاتها ويموتون في سبيلها…، كما حدث مع غسان كنفاني وكمال ناصر ولوركا، وغيرهم كثير. لا أريد للثورة في سوريا أن تقع في مطب إعادة إنتاج هذا النوع من الخلاف والجدال والخصام، كما في كلام ظهر عن «الخنادق» و«الفنادق»، الذي أثبت عقمه عبر مسيرة الثورة الفلسطينية. بالنسبة لسورياالجديدة، فإن أهم ما يمكن للمثقفين أن يفعلوه بداية، هو التخلص من شيء اسمه وزارة الثقافة، ومن شيء آخر اسمه وزارة الإعلام، ثم تشكيل هيئاتهم الثقافية ومنتدياتهم الأدبية وحلقاتهم الفكرية واتحاداتهم المهنية المستقلة ذاتياً كلها وإدارتها جميعاً بغير تبعية لأحد أو هيمنة لطرف. بعد ذلك، هناك ما هو متعارف عليه من قيم الدفاع عن حرية الفكر والضمير والتعبير والإعلام وتداول المعلومات التي يجب الحرص عليها بشدة والتي عانينا معاناة فظيعة بسبب سلبها واحتكارها وغيابها. بعدها، على المثقفين أن يجودوا بأفضل ما عندهم ولديهم ويقدموه للناس في كل مكان، حتى يبقى المثقف في سورياالجديدة مالئاً للدنيا وشاغلاً للناس. وبالفعل، ملأ المثقفون السوريون الدنيا وشغلوا الناس أثناء «ربيع دمشق» على قصره. فعلى الرغم من عقود سورية– بعثية– مخابراتية طويلة من الرقابة والحظر والمنع والمصادرة للمطبوعات والكتب والمجلات وتمزيق الصحف والجرائد وطمس كلمات في المعاجم والقواميس وسيطرة وسائل إعلام وثقافة رسمية واحدة موحدة في سوريا ذلك الزمان، أثبت المثقفون، عبر ما أنتجوه من كتابات ووثائق وتحليلات وتعليقات وانتقادات ومقالات، في فترة «ربيع دمشق»، أنهم أبناء الحاضر بكل معنى الكلمة أسلوباً ومعنى ومحتوى، وأنهم لم يتأخروا لحظة واحدة عن عصرهم وزمنهم وعالمهم الأوسع بتطوراته ومتغيراته كلها. كما أثبتوا أن هذه السنوات الطويلة من سياسة الرقابة والمنع لم تؤثر فيهم بشيء أو تمنع عنهم شيئاً له علاقة بثقافة العالم وفكره وفلسفاته وسياساته وأخباره الأخرى. وليتبين، في التحليل الأخير، أن السنوات المشؤومة إياها ذهبت هدراً وسدى وكأنها لم تكن بالنسبة لسلطات الرقابة الحاكمة. ولأكون واقعياً، أقول أنه إذا تحقق 25-30 بالمئة فقط من هذا كله في سورياالجديدة، تكون سوريا، عندئذ، قد حققت تقدماً هائلاً وقفزة كبيرة إلى الأمام. ملاحظة جانبية: عندما نتكلم عن الفعل الثقافي وفاعلية الثقافة، لا بد من أن نأخذ الأمر على الموجة الطويلة، وليس بمناسبة حدث ما بعينه حتى لو كان ثورة عارمة، لأن الفعل الثقافي تراكمي اجتماعياً وبطيء تاريخياً، ولا تظهر نتائجه النوعية إلاّ متأخرة. عندما تابعت ما كان يجري في ميدان التحرير في القاهرة وفي الميادين العربية الأخرى الشبيهة به، ودققت في الشعارات المرفوعة والمطالب المطروحة والأهداف المطلوبة والأشواق الفائضة، وسمعت كلمات وعبارات صادرة عن هذه الجموع الشابة مثل: الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والدستور والتسامح الديني والمجتمع المدني وحقوق الانسان، فكرت فوراً بالفعل الثقافي التراكمي الذي فعلته سلسلة طويلة من المثقفين والأدباء والمفكرين وأساتذة الجامعات تمتد، لربما، من أحمد أمين إلى عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، مروراً ب طه حسين وفؤاد زكريا وزكريا ابراهيم ولويس عوض وزكي نجيب محمود ونصر حامد أبو زيد، وفي سوريا تحديداً ب جميل صليبا وأنطون مقدسي وأديب اللجمي وعادل العوا وياسين الحافظ والطيب تيزيني، إلى آخر اللائحة الطويلة جداً.