إذا كان الشعر حركة وتحررا وفقا لما تصنعه الذات بخيوطها المنفلتة من سجن التاريخ، فإن الشاعر محمد بلمو يرحل عبر اللغة في الوجود، بناؤه يصنع المزامير لهذا الهواء من أجل اليقين، هكذا تصبح العنونة هي عبارة عن عتبة عليا التي من خلالها تطرح الأسئلة التالية: لماذا العنوان؟ وكيف جاء العنوان؟ وما علاقته بالذات الشاعرة، وكيف يستفز القارئ في عقر داره؟ أسئلة ترحل بين البداية واللانهاية وتبدع الصيرورة لتنفتح على هذه الفردانية داخل المجموعة، ف «رماد اليقين» في جنيالوجياته هي التشظي لهذه الآنا إلى ما لا نهاية، إذا لم يعد الرماد أصلا للنهاية، بل بعثا للمتعدد الراغب في إنتاج اليقين، لأن «رماد» جنس الشاعر يريد التحرر من النهائي، ليقترب من الجدول اللاهويتي، حتى يصبح شيئا عن أنا الشيء ذاته، ولعل هذا الانتقاء للهوية هو نفسه ما كان يهدف إليه فوكو ويسميه بموت المبدع أو الإنسان، لكن الشاعر بلمو لا يمنح لنفسه النهاية، بل يطمح لمنح هذه الذات انتصارا لموقعه داخل اليقين «الحقيقة»، فديوان رماد اليقين هو الوجود المشترك مع الذات، يتساءل عن معنى اليقين، وكيف يعود الرماد لا كوجود خارجي، لأنه لا يوجد رماد مسبق قبل البوح الذاتي، لذا تتجلى ظاهرة الرماد في الموجود كله كأداة، وليس كهدف، لأن بلمو هو الموجود الذي يعيد لنا الرماد إلى تجربتنا الأسطورية، ليكشف لنا أن البعث هو المكان الأنطولوجي الذي يتحول تبعا لسنة التطور، وقانون الممارسة الإبداعية الشعرية. فوجود الرماد لا يشبه وجودا /آخر وليس نسخة، بل هو ينبوع للاستعداد من أجل الحقيقة، إذن من الخطأ السقوط في مكائد الدعاية اليومية والسؤال ليس عن «الرماد» بل هو سؤال آخر، مختلف كثيرا: ما هو الشكل الذي ينبغي أن يتخذه العنوان؟ إن العنونة تتخذ مكانة بارزة في متن بلمو، إذ يرتكز العمل البلموي أساسا على محورين بارزين: 1) محور اليقين المطلق منظورا إليه كانحراف متنوع المرامي. 2) محور ثاني: محور الطعنات كونها متفرعة عن المحور اليقيني، ومرتكزا عليه بكل عناصره وفقا لمبدأ الهواء غير المعلن. فبلمو ينطلق من مسلمة أساسية مفادها أن الرماد فريسة طفولية وأن هدفها هو الحقيقة الآتية من الهواء، ولكن تخضع لطعنات متلاحقة من الخارج دون أن تتوافق مع العالم السائد، فهذا اللاتشكيل هو إلصاق سمة جنونية وفوضوية تجسد «الجسد» لإضفاء طابع الاجتماعي على السلوك الإنساني، لأن صناعة العناوين لا تتحدد إلا من خلال نشوة الدلالة الشعرية، فهي بيان شعري عن حالة نفسية إنسانية مأساوية، يعمقها ما لكلمات «رماد / طعنات» من رصيد ذهني عميق، تبدع لنفسها قراءة للزمن وللكون، فالديوانان يشرحان لنا ذاكرة الحضارة مستندين إلى الحس الجمعي، الذي بنى وجدانه وفكره، وتفاعله بهما مع النصين/فالرماد/واليقين، والطعنات،/والظهر،/والهواء هي مواجهة مع نوع من العلاقة بين الحياة والموت، ونوع انزياحي مخيف، فما إن تنشأ بوادر اليقين حتى تفجعها أعراض الطعنات، فتنتصب أمامنا قراءات هذا العراف، والكاهن بلمو، وتظهر كما ذكرت كحساسية جديدة تجلت في تضاريس الغلافين وفي علاقة مناصاتية نصوصية، حيث تتداخل بقوة مع الذات البلومية، لتصبح مرثية صدرها «رماد اليقين» وعجزها «طعنات في ظهر الهواء». فهذه الصيحة العناوينية تفتح لنا أفقا جديدا في تجربتنا الشعرية يقوم على التوظيف الرمزي والإيحائي لكل ما هو إنساني، فنجد أن ما هو مألوف – رماد – الظهر – اليقين – الهواء يصبح شاعريا وجماليا آخاذا، فالكلمات المختارة للعنونة ليست لتزيين النص المركزي، وترصيعه بأثاث براني وإنما لتوظيفها كإيحاءات دلالية ذات طابع نفسي واجتماعي، من هنا يندمج العنوان/كميتانص في النص/المركز كإشارات وعلامات توحي بسحرها في مخيلة المتلقي لتصنع لنا أدبية تتمدد فتكون شعرا فوق القصائد. كما يقول عبد الله الغدامي في كتابه تشريح النص ص: 65 «وتكون الكلمات المنتقاة إشارة قابلة لكل أنواع التأويل، فهي إذن أثر فني مطلق، وليس معنى واحد ووحيد»، فرماد اليقين وطعنات في ظهر الهواء، هو فناء غير حسي، مجردة من المرجع، لكن تتناسل فيها الأنوية لتصير صناعة لغوية، ولتؤسس نفسها داخل الغلاف كقيمة شعرية، تفتح إمكانات النص للقارئ، ليستمد منها أبعادا أسطورية، ورمزية وهواجس في طقس الإبداع الشعري. تشير العناوين إلى معان عدة في هذه المتون الشعرية كما ذكرت أهمها: اليقين، والطعنات، كلها تتلاقى مع الموجودات، فبلمو يحل محل النهائي، فيحول الأشياء المعروضة إلى عوالم ممكنة، وذلك بواسطة لغة شاعرية تجمع بين المفارقات، بوصفها أفعالا في الأزمان، فهي الوحدة في التعدد، والائتلاف في الاختلاف، والحسي في المجرد، والتاريخ الخيالي آلته البوح والوصل. فالشاعر يبحث عن سؤال من المختلف، وهذا البحث هو ملكة ومسؤولية الفاعل الأخلاقي والعارف بالأفعال والمسؤولية تجاه العالم .فاختزال العنوان كنوع غرائبي Centrefant astique يجعلنا نستشف أن المتن البلومي عبارة عن سردية العالم المتخيل يقر بواقعية الذات الفردية، بما هي قدرة على الإبداع والمبادرة والاختيار المسؤول، فالعناوين ليست هي الإبدالات، بل هي التي جعلت الشاعر يحقق وجوده، ويجسد الموقف الدادائي (نسبة إلى الدادائية) ليساهم في تغيير عالمه أولا، والعالم المحيط به، لأن اليقين هو المأمن وليس عبارة عن طعنات خارجية، فالرماد هو الملكوت الذي يغير ويطور، ما يفتأ يتبدل ويتحول بالهواء، فهذه الحوارية تلغي منطق التراتبية الذي يبرز الإعلاء من منطلق الغدر ضد فكرة الحقيقة. إنها قضية غيرية Altérité تشكل العتبة المركزية في التصور الميتاحواري وفي فكر الاختلاف، وما من شك أنها هي إعادة الموضعة، حيث تنطوي على تحاور فكر الثبات الذي يدعي امتلاك الحقيقة، ويروم فرضها على الغير، بحكم أن الرماد يبرز اليقين الحواري والتواصل مع الآخر المختلف، وهذا التناظر هو السبيل للإبداع الشعري، والتعبير عن وعي مبكر بأن الحق لا سبيل إلى اقتناصه بغير إجماع العقلاء على طلبه. بهذه الدلالة الإيحائية تكون الذات المتشظية ليست مجرد انفلات من القوالب الماضوية والشبكات السلطوية الرمزية، بقدر ما هي إلا قيادة الذات/المبدعة التي تصغي للحقيقة عبر خلق طعنات الهواء، لإنتاج حقائق ممكنة في فضاءات المعرفة والجمال، ف «الميتاعنوان» هو ممارسة إبداعية بلومية (بلمو) تعمل على تفكيك آليات العجز لتغيير قواعد اللعبة كما قال امبرتو إيكو في كتابه «القارئ الضمني» ص: 37 – فن تشكيل العوالم الفرعية – (المؤشرات الخارجية) هي أيضا إبداع أساليب استعارية وكتابة تحدث تحولا في الفكر وتسهم في تغيير أفقنا بقدر ما تمتلك هي نفسها واقعيتها 2.فالشاعر بلمو يوجه السؤال، كلما أصابته الدهشة مما حوله، إنه يستمد مادته الأولية من عالمنا كأسئلة كبرى منها: لماذا رماد اليقين؟ وماذا أستطيع أن أعرف؟ ولماذا طعنات في ظهر الهواء؟ وما هو الإنسان؟ وبماذا أحارب ذاتي لأكون غيري؟ إن هذه الأسئلة هي أوجه لعملة واحدة تجعل من الشاعر البديل السيء للمثقف وللسياسي، من هنا فإن الشاعر ينتقد بعنف الأنظمة الرمزية والسلطات الأسطورية، وتكسير فحولة العنونة في سجل الشعر، فهذا الدعوة هي الوسيط الكبرى التي تعمل على تدمير عولمة «العنونة» بلغة رمزية غير معيارية ولتجعل الفكر المغاير يشتغل ويحترف مهنة «النقد الجذري» إنه يشكل وسيطا بامتياز، إن بناء الشاعر للعناوين يجسد اختيارات حرفية ومهنية تنبثق من طبقات المعاناة المرتبطة بالترحال المستمر في مجال الفكر وعالم الدلالة وصناعة الكلمة. هوامش – هيجل، «أصول فلسفة الحق»، ج 1، ترجمة إمام عبد الفتاح، ص: 234. 2- علي حرب، مسألة الحرية، ص: 13.