الجسد هو الوعاء الذي يحمل ذواتنا طيلة السفر في الزمن الذي نعيشه، هو تلك الكبسولة التي ترحل بنا في تضاريس هذه الحياة. في البداية نعيش فيه طفولتنا بكل أفراحها وطيشها وبراءاتها التي تكاد تتلاشى مع طول الرحلة ومع تقدم العمر ونمو الزغب في سهوله الناعمة ومغاراته المظلمة، يكتشف كل واحد منا تلك العلامات التي تميزه عن غيره وتلك الملامح الخاصة التي تشكل صورته وشكله. أي الخلفية التي سيواجه بها برودة الكون. من منا لا يحلم بجسد شفاف لا يرى وآخر مضاد للصدمات لا تأكله الرطوبة؟ كل منا لا يبحث عن الحلم في ذاته وفي جسده. هذا المعامل الصعب المنال في معادلة تحمل بين أرقامها عددا لا يحصى من المجاهيل المتغيرة. فمن يقول إنه يتحكم في حواسه ويطوعها فهو عكس التيار ولا يفهم لغة الأضلاع. الجسد حاضر على الدوام في مختلف كتاباتي سواء كانت شعرا أو نثرا أو سردا. دائما ما أجده يتسلل إلى نصوصي على صورة الوجه أو الجمجمة أو العمود الفقري أو القدمين أو الخصر والظهر … من المحتمل أن يكون هذا له علاقة بطبيعة عملي في الحقل الطبي خصوصا أنه يدخل في اليومي وقد يكون أيضا على صلة بكل تلك الأفكار التي تتخمر في اللاوعي الكتابي ثم تخرج متمثلة في بعض الصفات ومن المحتمل أيضا أن يكون على علاقة ببحثي المتواصل عن نفسي تلك المخلوق الزئبقي الذي لا يمكن فهمه أو تصنيفه في خانة من الخانات. هذا الجسد الذي يذكرني في كل لحظة بالقصص والروايات والقصائد التي كتبت على جلده، يذكرني بالقبلات التي تحولت على سطحه إلى أزهار قرنفل وياسمين كما أنه يذكرني بالسواقي والخنادق التي حفرتها الأحزان والانكسارات المتتالية. القصائد التي اشتغلت فيها على ثيمة الجسد كانت أقرب إلى ذاتي أكثر من غيرها لأنني خاطبت فيها هيكلي والإطار الذي رُسمت فيه في يوم من الأيام. ذلك الجسد الذي عشت معه أيام الطفولة ولحظات الحنطة الأول وأيام المراهقة الغظيمة وسنوات الطيش والشباب وها أنا أقترب من العقد الرابع ولم أفهم الكثير من الزوايا الغامضة فيه. الكتابة وخصوصا قصائدي هي بطاقات تعريف تجعلني أطل على نفسي وأتحاور تارة مع هيكلي العظمي وتارة مع صدري وتارة مع الرجلين وما بينهما. ذلك الحوار الذي يفتح نوافذ جديدة وأخرى قديمة، هو الشهوة واللذة والألم والانكسارات. هو المتناقضات في كامل ألوانها. هناك من يكتب بصوت الأنثى وهناك من تكتب بصوت الذكر ولا يصلان إلى رعشة الإقناع، لكن الكاتب المتميز والمتمكن في نظري هو ذلك الذي يبدل جلده كالأفعى عند كل مغامرة كتابية جديدة هو ذلك الذي يتقمص صوت الجنس الآخر ببراعة كبيرة يصعب عليك من بعدها تحديد الصوت المتكلم وربطه مباشرة بجنس الكاتب. ليس بالضرورة أن أكون أنثى لكي أتحدث بلسانها. القدرة على الإقناع أولا والغوص في شرايين الشخصية ثانيا قد يحدثان فرقا يمَكن من تميز عمل عن غيره. وهذا ما لاحظته في تجارب كتابية علمية وعربية وأذكر مثلا وليس حصرا تجربة الكاتب الياباني ياسوناري كواباتا والطريقة المدهشة التي يتناول بها الأصوات وتقمص الشخوص. نزار كربوط * شاعر- المغرب