تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟        عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل سيجول مجددا «شبح الاشتراكية» في «ما بعد»؟!

خلال «الحجر الصحي»، وفي مكالمة تلفونية مع رفيق، قلت له مازحا: ألا ترى كيف أن جائحة كرونا تقوم بأدوار مضاعفة بما لم يقدر أن يقوم به «المثقف العضوي والحزب الطليعي» في جميع العقود السالفة (!!).
وكان رده مازحا هو الآخر: الحمد لله الذي أطال عمرنا إلى هذا الزمن، لنأخذ معنا بعد الحياة أخباراً سارة على الأقل، فلا تذهب نضالات أجيال سدىً، فرب ضارة نافعة!!
الوباء والحجر الصحي جعلا العالم في أغلب بلدانه، بلا فرق بين المتقدمة والمتأخرة، وكأنه يعود بوجوده إلى «وضعية الصفر»، أي، لمّا خطت البشرية الناطقة أولى خطواتها في مسيرتها التاريخية. هكذا، كشف هذا الوضع الصفري في جوهره، وبوضوح تام، المعادلة التي حكمت صعودا تلك المسيرة التاريخية، وحتى وهي في أعلى مراحل نضوجها. والمعادلة كانت وما زالت: العمل (n الوعي)ß الإنتاج ß الاقتصاد ß الثروة المادية والروحية. إنها نفس المعادلة التي بنى عليها الفكر الاشتراكي تصوره العام للتاريخ وللموقع المشروط والفاعل للإنسان فيه. فأين نحن إذن من تلك الهجومات الأيديولوجية ضد ما حسبته «واحدية العلة» في تفسير الاشتراكية للتاريخ البشري، وما يحمله هذا التفسير من اختزالية للحياة البشرية المعقدة، ومن «حتمية ميكانيكية، وغائية وخلاصية» تجاوزها العصر والمعرفة العلمية. وها هو الامتحان، وكأنه بأبجدياته الأولى، يشهد على أن كل بنيان التقدم يمكن أن ينهار إذا ما طالت «العطالة الاقتصادية»، وهل من علة أخرى تعلو على العلة الاقتصادية في عز مقاومة هذه الجائحة؟!
ومع ذلك، لا جدال في أن قراءة معينة للنظرية الاشتراكية من ذاك النوع المنتقد (بفتح القاف)، كان لها حضور قوي في ما مضى، كما لا جدال في أن المعرفة البشرية في ميادينها العلمية والتكنولوجية والاجتماعية المختلفة والمتعددة، قد شهدت جميعا تطورات كبرى، ينبغي أخذها في الحسبان، وإنما لا هذا ولا ذاك يطعن في أساسيات التصور الاشتراكي، إذا ما أخذنا فكرة «الخط الناظم» التجريدي للتاريخ بدلالته الصحيحة، ولم نسقط عنه تصوره الجدلي وبعده الإنساني. فالذي ينبغي ألا ننساه، وعلى الضد مما هو شائع في الانتقادات المدرسية عامة، أن الليبرالية – الرأسمالية في مسارها الواقعي، هي تحديدا، الأيديولوجية التي تُصنِّم الاقتصاد، وتجعل منه الدافع الوحيد، والمصلحة المستبدة بالكينونة البشرية. إنها حقا العلة الوحيدة الكامنة خلف ما تدعيه مثاليا بالحرية. أما التصور الاشتراكي، فهو أولا وأساسا «نقد للاقتصاد السياسي» كما هو معروف، وبالتالي، هو كشف لأصنامه عبر التاريخ، وسعي للتحرر منها، وصولا إلى المجتمع الحر قولا وفعلا.
قد يقال، وما علاقة كل هذا «بوباء طبيعي» ضرب كل الأنظمة وجميع الأيديولوجيات.. والعلم قادر، إن آجلا أو عاجلا، على معالجته ومعرفة أسراره. فالمسألة هي صحة الإنسان، لا غير (؟ !) وكل تأويل آخر، غير العلم، هو حشو لا طائلة منه !
لا أريد أن أذهب بعيدا، سوى أن أبدي الملاحظة السريعة لا أكثر: العلم نفسه، عندما يوظف في تكريس علاقات اجتماعية رأسمالية، يحيد عن خدمته للمصلحة الإنسانية العامة، وهي هنا العناية بصحة وحياة الجميع، وإلا كيف نفسر ميزانيات الصحة جميعا، وفي النموذج الأمريكي مثلا، تقل أضعافا وأضعافا عن ميزانية التسلح. ودون الحديث عن نوعيات أنظمة الحماية الاجتماعية، وأدوار لوبيات صناعة الأدوية، وغير ذلك من المؤسسات والسياسات. العلم إذن تتحكم في خدماته وأولوياته الاختيارات السياسية والأيديولوجية للمصالح الحاكمة والسائدة. أليس مثيرا أن يكون لكوبا، الدولة الصغيرة والمحاصرة، أفضل نظام صحي من دول رأسمالية متقدمة؟ !
ويبقى السؤال، لماذا هذا الإلحاح من قبلي، وكما في مقالات سابقة، على المسألة الأيديولوجية الاشتراكية، في الوقت الذي لا تبدو فيه أنها جاذبة للاهتمام، وبينما جل الاجتهادات الحالية ترنو إلى استكشاف ما ستتركه هذه الجائحة من مفاعيل على الإنسانية جمعاء؟ !
لست بعيدا عن ذلك كما قد يتخيل قارئ هذه الورقة، وإن ركزت في النظر إلى أبعاد هذه الجائحة على تذكير القارئ ببعض المبادئ الاشتراكية، خاصة وأن خطابي موجه دائما إلى المناضل اليساري، وفي وقت لا يزال اليسار في مجموعه يعاني من فوضى أيديولوجية أعاقت تقدمه ووحدته وقدراته على المبادرة البرنامجية والفعل الجماهيري المنظم.
ومن المتابعة لما ينشر ويذاع من تحليل للأزمة الكونية الناجمة عن جائحة كرونا، سيلحظ المتابع لا محالة، أن الإنشاءات التنظيرية تكاد تجمع على أن «ما قبل الكرونا، ليس كما بعدها.» وتكاد في اتجاهها العام تتقاطع مع ما كان الاشتراكيون يطرحونه في تقييماتهم النقدية للنظام الرأسمالي؛ وهذه المناخات الأيديولوجية العالمية المستجدة والنامية، هي بلا ريب لصالح الأيديولوجية الاشتراكية ولصالح عودة «شبح الاشتراكية» ليجول العالم، بعد توارٍ طويل. وهذا يفترض أن يستعيد الاشتراكيون ثقتهم في أنفسهم وفي الأيديولوجيا التي حملوا مشعلها وناضلوا من أجل غاياتها. وأكثر من أي وقت مضى، تبدو قولتهم القديمة، أن العالم بين خيارين، «إما الاشتراكية، وإما السقوط في البربرية»، قولة على محك ديناميات الواقع المأزوم.
(2)
ينبغي إذن الخروج من الضبابيات الأيديولوجية واللاأدرية والانتظارية، وينبغي التحكم في اللايقين»، هذه المقولة ذات المصادر العلمية، قد تضر بالممارسة إن حُرفت وضُخمت دلالاتها «النسبية» أيضا. لقد بات مطلوبا «تنظيم هجوم أيديولوجي اشتراكي بملء الثقة في المستقبل.. ولكن ليس بالعودة إلى الدوغمائية ومفاهيمها الوضعانية الميكانيكية البالية، والتي جُربت وجاءت بخسارات كبرى مازالت عواقبها النكوصية قائمة إلى اليوم. وهنا، لابد من هذه الملاحظة الجوهرية التالية:
بعيدا عن التأويلات الفلسفية الإبستمولوجية لما تطورت إليه وصارت عليه، العلوم الرياضية و «الطبيعية» أساسا، وبعيدا عن أصول فلسفية سابقة لدى كل من هيغل وماركس في مفهومهما المتعارض ل «مكر التاريخ»، وبعيدا عن الرصيد الماركسي في مسألة الضرورة والصدفة والحرية، بما فيها المستجدات كما عند ما يسميه ألتوسير مثلا «بالماديانية الصدفية»… لأنها جميعا ستدخلنا في بحث غني ولكنه فائض عن الحاجة الملحة. فما ينبغي أن نذكر به، أن العلوم الرياضية و «الطبيعية» الحديثة، لا تقف مشدوهة أمام تعدد الاحتمالات والصدف و العشوائية، بل هي تذهب بعيدا إلى تعقلها وضبطها وقوننتها. وإلا كفت العلوم على أن تكون علما!.
إن الممارسة السياسية بالأولى والأخص تحتاج إلى أكثر من موقف ابستيمولوجي، إنها بالأحرى «موقف وجودي» تتداخل فيه، وتتفاعل فيه، جماع الشخصية الإنسانية الفردية والجماعية من مُثل وعواطف ووجدان، وإرادة مشحونة بالمستقبل ودائما مع الرؤية الموضوعية ما أمكن. ويزداد هذا التراكب شدة في مراحل النضال الوعرة والمعاقة، وفي المنعطفات التاريخية الحاسمة، والتي تحتاج إلى تضحيات كبرى، قد تكون حياة المناضل نفسها فداء لغاياتها. هذه الممارسة تحتاج إلى ثقة جازمة بالمستقبل. والثقة هي بنوع مَّا من نسيج الرؤية «اليقينية»، إنها التراكب بين العقل والإيمان، وإلا صارت الممارسة السياسية (ومن باب الاستعارة فقط) فرجة ابستمولوجية شبيهة بفرجة (اتْبوريدا) حيث الفرسان، وهم على أحصنتهم يركضون، وبحركة تشكيلية جميلة، يطلقون البارود في عنان السماء، ويعيدون الكرة من جديد. ومن باب الاستعارة أيضا، هم أبعد من معارك الجنود في الحرب حيث النصر يتوقف إلى حد بعيد على عنصر المعنويات الواثقة من الانتصار ! أما إذا فصل أحدهم بين العلم والأيديولوجيا، وأدخل كل ما قلناه عن المُثل و عن الوجدان والأحلام والإرادة وسواها في خانة الأيديولوجيا، فهذا لا يغير شيئاً من وحدتهما الفاعلة في الواقع الحقيقي لا الذهني !
ولا يعني ما سبق أن الممارسة السياسية النضالية تنساب على طريق نيِّر معبد ومستقيم، لا تعترضها مفاجآت ولا صدف ولا تعدد الاحتمالات، ففي العادة، ولا سيما في العُقد والمنعطفات الحاسمة، يجد المناضلون أنفسهم أمام ثلاثة احتمالات كبرى متشابكة ومتحركة وفي كل منها حزمة من التناقضات العينية تؤشر إلى اتجاه حراكها العام:
إما أن يستمر الوضع على حاله في خصائصه الكبرى على الأقل.
وإما أن يشهد مرحلة انتقالية، قصيرة أو ممتدة، تتفاعل فيها عناصر الماضي وعناصر المستقبل.
وإما أن يكون الوضع على أُهبة تحول كيفي تسود فيه عناصر المستقبل على الماضي.
وفي أغلب الأحوال، لا تكون الصورة على هذا التراتب الواضح، ولهذا استحق الفعل السياسي توصيفه المعروف ب «فن الممكن»
(3)
دعنا الآن نرى بعضا من التناقضات، والتي ليس بالوسع تفصيلها والغوص في بواطنها، مع أني أنوي أن أتممها وأوسعها في موضوعات لاحقة. ولهذا فهي خلاصات عامة تؤشر إلى اتجاه الاحتمالات الراهنة، ولا تستوفيها قطعا.
أولها، قد لا تكون الفكرة الاشتراكية هي المنطلق المحرك والمآل لدى النخبة المفكرة الغربية اليوم، لكن كيفما قلَّبت وجوه استشرافاتها، فليس بغريب أن تجد بصمات اشتراكية بارزة عليها، لاسيما لدى أولئك الذين ارتبطوا في ماضيهم بأيديولوجيتها واستمروا أوفياء لروحها، وحتى لدى أولئك الليبراليين ذوي الحس الاجتماعي القوي. ولا غرو في ذلك؛ ففي نظري، كلما تجذر الفكر إنسانيا كلما كان أقرب إلى الأيديولوجية الاشتراكية. إذ الخلاف الرئيسي بين الاشتراكية والأيديولوجيات الأخرى، وعلى عكس ما هو رائج، يدور تحديدا حول مكانة الإنسان وحريته فردا وجماعة. وكيفما كانت عمومية تقييمي السابق، فالشيء المؤكد، أن العالم سيشهد، فصاعدا، مخاضا أيديولوجيا نقديا أقوى وأكثر تجذرا عما كان عليه في الماضي.. إلا أن الفكر لا يصير قوة مادية إلا بعد أن تتبناه قوى اجتماعية لها الوزن الموجه والفاعل، فهل ستشهد المراحل القادمة تغيرات كبرى في تموقعات المثقفين وفي ارتباطاتهم الاجتماعية والسياسية المباشرة؟ ليس من جواب قطعي، ولكنه رهان يستوجب المتابعة الفكرية والسياسية وخاصة في بلداننا العربية التي مازالت بحاجة فاصلة إلى الدور العضوي «القيادي» للمثقفين في تقدم حراكها الاجتماعي.
وثانيها: يبدو لي أن عقدة مختلف الصراعات في الراهن وفي المستقبل القريب، تدور في زمن العولمة حول ما سيجري من تغيرات على منظومتها الدولية. وعلى رأس هذه الصراعات ما ستنتهي إليه من إعادة ترتيب للقوى الدولية في النظام العالمي بين الولايات المتحدة والصين وحلفاء كل من الجهتين. وقبل ذلك، علينا أن نسجل أن جميع الأنظمة اليوم منشغلة محليا بقضية رئيسة تنصب على وقف انتشار الجائحة في انتظار إيجاد تلقيح لها، وعلى معالجة تداعيات وخسارات الكساد الاقتصادي والاختلالات الاجتماعية التي أحدثتها، ولتعيد دوران عجلات النظام إلى وضعها الطبيعي. فلا واحدة من القوى الحاكمة أو المنافسة في الدول الامبريالية الكبرى أظهرت بوادر تغييرات على استراتجيتها الدولية التقليدية، تنم عن فكر سياسي جديد يستشرف التحديات الكبرى التي ستواجه البشرية في المستقبل المنظور. فالصراع العالمي بتصنيفاته المعروفة لا يزال هو نفسه، وتأتي الولايات المتحدة، لخصوصية موقعها العالمي، وبحزبيها، في صدارة القوى المتشددة المحافظة على نفس الوضع العالمي المأزوم..
وفي هذا السياق، وجب التنبيه إلى عدم الخلط بين العولمة ومنظومتها الدولية. فالعولمة ستستمر قائمة للطور الذي وصلته الاقتصادات الوطنية في الاعتماد العالمي المتبادل، والذي وصلته المؤسسات الإنتاجية والخدماتية والتمويلية في الاستثمارات والتكنولوجية والأسواق الكبرى والتواصل العالمي الرقمي، مما يجعل أي تصور مناقض خصوصا لدى الدول الكبرى المهيمنة تصوراً يفضي إلى الفوضى والتدمير المتبادل لا غير. جميع الصراعات الدولية اليوم، على الرغم من مظاهرها الساخنة والمنفلتة لا مخارج لها سوى بإعادة توزيع القوى والانتفاع العادل من منافع العولمة مع التقدم في حل المعضلات الناجمة عنها في التلوث البيئي، والفقر المتفاحش في دول الجنوب، والتحكم في المؤسسات الدولية، وحل النزاعات بالطرق السلمية مع احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، ووقف سباق التسلح وعسكرة الفضاء، وإصلاح هيئة الأمم المتحدة والنظام النقدي الدولي الذي يعطي للولايات سطوة عقابية لا حدود ولا شرعية لها واحترام خصوصية البيانات الشخصية والسيادة الوطنية اللأكترونية.
في جميع تلك القضايا الواردة لا يمكن تجاهل الميولات الامبريالية السائدة في العولمة الراهنة، وخصوصا من قبل الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية التي لها سجل استعماري سابق. ومن هذه الوجهة، يحتل الصراع الأمريكي – الصيني الدور الأكبر في مآل المنظومة الدولية الناشئة. ولا شك أن الصين باتت تملك العديد من عناصر القوة الاقتصادية المنافسة التي تؤهلها إلى أن تكون القوة الاقتصادية الأولى، وما سيترتب عن ذلك من تغيرات في المنظومة الدولية عامة. وقد كُتب الكثير عن التعددية القطبية الراجحة في الزمن المنظور. ولهذا سأكتفي هنا ببعض الملاحظات المكثفة على هذا الترجيح.
حتى مع الافتراض الراجح أن الصين (وباقي البلدان المرشحة ومن أهمها روسيا والهند) قد تمكنت من إزاحة أمريكا كقوة اقتصادية منفردة الهيمنة العالمية، فستبقى لأمريكا قوة ممانعة كبرى ليس بوسع الصين منافستها في الزمن المنظور على الأقل، ومنها القوة الناعمة للغة الإنجليزية في المجالات الثقافية، وقوة الدولار في التبادلات الدولية، وقوة التحالفات الرأسمالية العضوية مع بلدان قوية ومتقدمة مقارنة مثلا مع التحالف المتقلقل لدول البريكس، فضلا عن حلف الناتو وعن التحالفات مع البلدان المطلة على المحيط الهادي، وناهيك عن الابتزازات الممكنة والمستمرة لمشاكلها الداخلية في هونكونغ والتايوان والتبيت والإيغور.
وبوجه عام، لا يمكن للصين أن تحصن نفوذها النسبي في المكانة الدولية، فقط، بدورها الاقتصادي والتجاري وحتى التقني، كوسيط أبكم أيديولوجيا لا يسعى إلى تعظيم قوته الثقافية الناعمة والدفاع عن نموذجها السياسي (الاشتراكي)، والذي سيكون محط الطعن الشرس في شرعيته الديمقراطية من قبل منافسيها الغربيين، فهل ستخرج الصين من صمتها الأيديولوجي وهي مضطرة لتعزيز قوتها العسكرية وتدخلاتها السياسية الدولية. ليس من خيار آخر سوى هذه الضرورة الدفاعية القصوى، وإلا فنظامها السياسي سيكون في مرحلة مَّا هو الضحية لتقدمها الاقتصادي !.
ولا شك أيضا، أن تعدد الأقطاب في المنظومة العالمية، سيمكن كافة بلدان العالم النامية من حرية نسبية في تقرير اختياراتها الوطنية في كافة المجالات وبما يتناسب مع أولوية مصالحها الوطنية. ومن تلك البلدان المنطقة العربية التي تحملت الأذى الأكبر للسياسات الامبريالية الأمريكية والغربية أيضا. وإجمالا، فإن ترسيخ التعددية القطبية في النظام العالمي، وبصرف النظر عما سيحدثه (ومن أسباب أخرى) في المنظومة العربية من انكفاء لنفوذ الدول العربية الرجعية، ولجموح إسرائيل، فإنه سيحتاج بالضرورة إلى جبهة تحالفية دولتية وشعبية. والحال، أن هذا الإمكان مازال بعيدا لضعف قوى التقدم من جهة، ولسيادة استراتيجيات دولتية آنية وفقيرة الطموح الحضاري، من جهة ثانية. الوضع الراهن لدول الجنوب بعيد كل البعد عن روحية مؤتمر باندونغ المستقلة والمتطلعة إلى أن يكون لها الدور البارز في صنع الحضارة العالمية.
ومع ذلك، لا يمكن أن نلغي من حسابات المستقبل إمكان هذا التطور خاصة بعد أن تجد هذه البلدان «النموذج التنموي» الملائم لمصالحها الوطنية والمتحرر من التبعية في عولمة متعددة الأقطاب، وهو الإشكال الذي تتخبط فيه ولم تجد له بعد حلا تستقر عليه، وتجتمع عليه في الدفاع عن مصالحها المشتركة باستقلالية وإرادة حضارية كما كانت عليه «روحية» باندونغ.
ثالثها : ودون أن نقلل من أهمية الحراك الشعبي في البلدان النامية المتطلع إلى محاربة الفساد والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فإن أشكاله الأخرى في البلدان الرأسمالية الأم لها مضاعفات كبرى ومباشرة على أنظمتها الرأسمالية. ومن هنا تأتي الأهمية الاستراتيجية للحراك الشعبي في هذه البلدان وخصوصا في أمريكا وفرنسا وبريطانيا، والذي اتخذ في عمومه صبغة محاربة العنصرية في هذه الأنظمة. وعلى الرغم من شح المعلومات الدقيقة عن تلاوين خيارات قيادات هذه الحركات، فإن المحللين يجمعون في أغلبهم على أن الحراك المفاجئ والمستأنف في الولايات المتحدة ستكون له أبعاد عميقة على مسار النظام فيها, ولا تخرج فرنسا بالأحرى عن هذا التوقع، سيما وأنها الأرض التاريخية المثال للصراع الاجتماعي، والذي شهد إلى الأمس القريب حركات احتجاج «القمصان الصفر» و التظاهرات النقابية المستمرة.
لهذا الحراك المدني الأخير الذي يبدو في الظاهر محصور الهدف في محاربة كل أشكال العنصرية الموروثة عن ماض مقيت وثقيل، قابلية الامتداد والارتفاع إلى ماهو أعلى وأشمل في الصراع الاجتماعي ضد النظام الرأسمالي القائم. فالعنصرية ليست في واقع الحال سوى وجها مميزا من وجوه الاستغلال الطبقي العام. والنضال ضد العنصرية هو في الآن نفسه نضال ضد عهود من الاستعمار والاستعباد للشعوب الأخرى، ويحمل معه بالضرورة روحا أممية تضامنية ضد كل أشكال القهر والقوة في عالم اليوم.
وأود هنا التشديد على أن القيمة الثقافية الكبرى لهذا الحراك ضد العنصرية، أنه بعث جديد للذاكرة الإنسانية التاريخية، بعد أن كاد يُطْمرها ركام الوثنية الليبراليى الرأسمالية. استفاقة جديدة على أن الوثنية الليبرالية الرأسمالية، ببنياتها وقيمها، قامت في الواقع التاريخي، على جبال من الجماجم البشرية خلفتها العبودية والحروب الاستعمارية وغيرها من أشكال العنف، أين منها ما قيل عن المثال الستاليني القمعي الذي أريد له أن يكون المثال الشاذ لنسيان آثار الليبرالية الرأسمالية في تاريخها الدموي المستمر، و في كبت وقمع أي تطلع إنساني أو تحرري يتخطاها.
والمفارقة التي مازالت ضاربة، أنه في الوقت الذي أضحت فيه المسألة الديمقراطية تأخذ أبعادا كونية في النظام الرأسمالي المعولم، ويصير خلالها بالتالي، ولأول مرة، الإنسان هو المعيار الحق، لا المواطن وحسب، كما جرى في الديمقراطيات الرأسمالية، ولو بالتقسيط كما هو معروف، في هذا الوقت مازال الوعي الديمقراطي «الانتخابوي» محليا وفرديا في عمقه، بينما الوعي بالخيارات والمواقف الامبريالية للدولة الرأسمالية إما متدن أو شبه غائب. قد تكون هذه المفارقة دليلا آخر على أن الاقتصاد هو المتحكم في السيرورة التاريخية العامة، كما أسلفت في البدء، إلا أن نفس المفارقة، تبين أن الأيديولوجية الليبرالية الرأسمالية هي التي تُصنِّم هذه العلة الرئيسة بينما الأيديولوجية الاشتراكية تنتقدها وتسعى إلى التحرر من صنميتها واستلاباتها.
وفي جميع الحالات الممكنة، فإن النظام الرأسمالي وأيديولوجيته، أضحيا اليوم، وفي ال»ما بعد»، وبعد جمود طويل، محط تساؤلات ومراجعات نقدية لأسسه وبنياته وقيمه. وهذا الوضع الذي سيأخذ مداه، بقدر القوى الاجتماعية التي ستحمل مشعله، سيشيع بالضرورة مناخات أيديولوجية منعشة ليجول «شبح الاشتراكية» من جديد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.